الملحق الثقافي- د. غسان غنيم:
لماذا الشِّعرُ رفيقَ البشريةِ منذ النشأةِ الأولى؟ لماذا الشعر؟ سؤالٌ غيرُ مشروع وقد قَطَعتِ البشريةُ كلَّ هذه الأزمنة وهي تقولُه وتكتُبُه وتغنّيه وربما لا يكون ثمّةَ جدوى من طرحه، ولكنه يُلحُّ ويلحُّ ولا يستكين عبر السنين.
لماذا الشعر؟ لأنه يتغلغل كالماء في تربة الوجدان التي شقّقها مَحْلُ اليوميّ والأرضيّ الزائل، ولأنه يغوص ويختلط مع خلايا الروح، لأنه يتفاعل مع ذرات أعماقنا ليعيدَ تركيبنا من جديد، لأنه يرفعنا بعيداً عن تشظّينا اليومي الذي ينزع الكثير من إنسانيتنا، ويغمسنا في العابر الفاني على حساب الخالد فينا، لأنه ينتقد من الاستسلام بكليَّتنا لِما هو عارضٌ ويسحق أرواحنا بالنفعي المُؤقَّت، وما يكرسه من الأنانية والفجاجة والتكالب على الاستئثار.
ولأن الشعر يَسقي بندواتِه الروحَ فَيُبعدها عن التخشب والتيبّس والجفاف، ولأنه يربطنا ببراءة الطفولة وعفويتها ودهشتها أمام مظاهر الوجود وأحداثه، فيجدد الأملَ فينا بأنَّ في الوجود ما يستحق أن يُعاش.
ولهذا يبقى الشعراء الحقيقيون أطفالاً ينظرون بعين الدهشة فيرون ما لا يراه الآخرون، مُقتنعين بصدق ما يرونه، لأنهم الأقرب إلى بؤرة الوجود الإنساني وجوهره الحقيقي..
ربما لهذه الأسباب وسواها مازالت البشرية تنجذب نحو الشعر.
ولماذا ننجذب نحن نحو تجربة الشاعر»توفيق أحمد»؟
لأنه كسرَ الوقتَ ومشى، ولو تعرفون، لأنه أعلنَ نشيدَهُ الذي لم يكتمل بعد من دون أن يُهادن الماءُ جبالَ الريح، ومستشرفاً حريرَ الفضاء العاري..
تجربةٌ كان منطقُها الحياةَ والجمال، وعُصارتُها فرحة من يتشوقون الفرح والحب والوطن..
انطلق توفيق أحمد من أرضية صُلبة للشعر، ممتلكاً ناصية القصيدة التقليدية، قصيدة الشطرين، فبعض من يدّعون الشعر، يتجاوزون هذا الأساس، ادعاء الحداثة، وهم لا يعرفون امرأ القيس أو النابغة أو قيس أو أبا النواس أو المتنبي أو أبا تمام أو البحتري أو أحمد شوقي أو أبا ريشة أو البدوي..
ويصبّون مشاعرهم في حالتها الخام فوق فضاء الأوراق، قائلين بأن هذا الشعر من زمن لا يعود، وهم لا يدركون أن العجز هو الدافع، وأن التقصير هو السبب، ومن يقرأ أعمال توفيق أحمد يدرك إلى أي مدى تَشَبَّعَتْ ذائقتُهُ بروائع الشعر العظيم، فكوَّنَ أرضيتَه الصلبة التي انطلق منها نحو أجواء الحداثة والشعر الحديث.. يقول في قصيدة(أميرة الحبق والعشق) ص 27 من أعماله الشعرية الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام/2015/:
لستُ قيساً طبيبَ كلِّ زمانٍ لستِ ليلى مريضةً في العراقِ
حسبُنا العشقُ جمرةً تتلظَّى ووفاءً مقدَّسَ الاعتناقِ
ولا يصعب أن نرى قيساً يتبختر في البيتين السابقين حيث يقول:
يقولون ليلى في العراق مريضةٌ فيا ليتني كنتُ الطبيب المُداويا
ونلمحُ كُثيِّرَ عَزَّة، الشاعر الأموي، حين يقول توفيق أحمد في قصيدة «ولو مرت يداكَ»
تَمُرُّكما سحابةُ فصلِ صيفٍ على بيتي وتبخلُ بالهطولِ
وقد حضر كُثيِّر عزّة في قوله:
وإني وتهيامي بعزةَ بعدما تخليتُ مما بيننا وتخلَّت
لَكالمُرتَجي ظلَّ الغمامة كلَّما تبوَّأ منها للمقيلِ اضمحلَّتِ
كأني وإيّاها سحابةُ ممحلٍ رجاها فلمَّا جاوزَتْهُ استقلَّتِ
ولا يفوتُ الشاعر أن يكون القرآنُ الكريم ركناً مهماً في بناء تكوينه المعرفي والأدبي، فنراه حاضراً في شعره عِبرةً وصوراً، ولغةً فنيَةً، عبر تناصّاتٍ زاخرةٍ بفنيةٍ رفيعة:
هزِّي بجذعِ النخلةِ العجفاءِ
فالثّمرُ انتهى
واسَّاقطي هذا المساءَ جهنماً
أحلى وأرحبْ
عذبٌ شرارُكِ إذ يهبُّ عليَّ
لكنَّ انطفاءَكِ فيَّ أعذبْ
رغم امتلاء الروح بالدّفاق من خُضرِ
المنى
وتوُّحش الأحلامِ فوقَ محاجري
مازلتُ أرغبْ
ففي تناصَّه مع سورة مريم في القرآن الكريم، في الآية التي تقول: «وهزّي إليك بجذعِ النخلة تساقط عليك رطباً جنياً» لا يقوم باسترجاع الآية كما هي على طريقة الاقتباس، بل على طريقة تناص الامتصاص، حيث يتمكن المتلقي من استرجاع أجواء النص الأصلي عبر استخدام بعض عناصره، ليخلق الشاعر تركيباً جديداً يُفيدُ جماليات النصِّ الأصلي لخدمة النص الأصلي لخدمة نصه. ومن جماليات لإبداع بنية فنية جديدة قادرة على البث والإيحاء.
ومثل هذا جاء في بداية مجموعته «نشيد لم يكتمل» في قصيدة «مقدمة لوجع قديم»: عن ظَهرِ قلبٍ/ مُصْحَفُ الأمواج أحفَظُهُ/ وأولُ وردةٍ بيضاءَ فيه الحمدُ للعشقِ/ الذي أسرى بأوجاعي/فعلَّمني نشيدُ البحر/ فاتحةَ المحارْ..
وهو تناصٌّ مع الآية الكريمة من سورة الإسراء:
«سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه السميع البصير»
يتعالى التناص لدى الشاعر على أن يكون مجرد آلية فنية ومعنوية، ليصير عنصراً بنائياً في خدمةِ الإيحاء الذي يريده الشاعر فالحب بالنسبة إليه يتجاوز، معنوياً ومجازياً، مع مَنْ أسرى بعبده ليلاً عبر معجزة الإسراء ليصير الحب والعشق معجزةً تؤلّفُ القلوب، وتبعد الأحزان، وتعلمنا نشيد الطبيعة البكر في المحبة والعطاء.
كثيرةٌ هي الموضوعات التي تناولتها الأعمال الشعرية، وقد تنوعت بين الحب والمرأة والذات، والوطن والمدن والشهداء، والأبطال والقرية والبحر، وفيها تجتمعُ ربّاتُ الفنونِ التِّسْعِ..
وقد جعل الشاعر توفيق أحمد مكانةً مُهمةً للمرأة في شعره مقترنةً بموضوعة الحب والعشق.. فاعتقادُه الراسخ هو:
إذا لم يَكُنْ عِشقٌ وللعشقِ سرُّهُ فليس لهذا الكون سرٌّ ولا جهْرُ
الحب والعشق والمرأة ميدان الشاعر الأرحب، فيه يصول فارساً لا يُشقُّ له غبار، تنثالُ صورةٌ فيه عذبة تنبع من مكابدة حقيقية، فتؤثر في المُتلقّي وتثير مشاعره، وتعديه بكيمياء الحب وعذوبة العشق، على أن الشاعر لا يعاظل في موضوعه هذا، ويسقي قاموسه من قاموس الشعر العربي، ويسبغ عليه من إحساسه ليبدو طازج الورد، سلساً وعذباً، مضمخاً بتجربة خاصة، عامة، رائعة، سائغة، يقول الشاعر توفيق أحمد في قصيدة(النجوى) ص 78 من أعماله الشعرية:
سافرتِ مثلَ شراعٍ فوق خارطتي فهل سألتِ دمي عمّا أُعانيهِ
جاوزتِ كلَّ حدودِ الحب فالتفتي للقلب أنتِ ربيعٌ دائمٌ فيهِ
في بحرِ عينيكِ قد أَرسيتُ أشرعتي ولا يلامُ محبٌّ في تماديهِ
يا عذبةَ الروحِ هل من خَمرةٍ بقيتْ للموعد الحُلو يَسقيني وأَسقيهِ
إنه الميدانُ الذي يصبُّ فيه الشاعر عصارةَ الحب والفن والعذوبة والسلاسة، حيث يبدع في رسم المشاهد، فإذا الملتقي أمام ربيع وبحر، أشرعة وخمرة، وإذا الشاعر يحلق نورساً يرسم معالم عالم يسمو بالروح ويزخر بالحب، أما عذوبة الكلمات ودفق الموسيقا فيها فتتجلى في اختيارات دقيقة تفيض بالاتساق والتناغم لتأخذ القلوب في رحلة نحو الجمال والإشراق.
زرقةٌ تسبح السمواتُ فيها وانطلاقٌ للضوءِ تِلْوَ انطلاقِ
يخمدُ الشوق بالعناق فظلِّي حُلماً غيرَ قابل للعناقِ
حسبيَ الآن أن أصوغَكِ شعراً ظلَّ خمراً على فم الذَّواقِ
عندما نعرف أن عنوان القصيدة هو»عيناكِ» ندرك مدى القدرة الفنية في نقل فتنة هاتين العينين اللتين تسبح فيهما السماوات وتتلألأ فيهما الأنوار، وتفعلان بالألباب ما تفعله الخمر..
ويحضر المكان مكوِّناً رئيساً من مكونات مضمونات الشاعر، فنرى البلاد تترى في قصائده، ونرى الأماكن تحضر، ليحضر معها حدثٌ أو معنى، فاليمن وصنعاء والمعرّة ولبنان والبقاع واللاذقية وتدمر وايبلا ودمشق والرقة وألمانيا وحمص والسويداء… وكأنما الوطنُ الحاضرُ الدائمُ في وجدان الشاعر، لا يفارقه، مزروعٌ فيه، وكلُّ بقاعهٍ وطنٌ حميم.
يقول في قصيدة «وردة أخرى لدمشق»:
هي وردة أخرى
فَشُرفتنا انتهى فيها الحوارُ
وملَّ قوسُ الياسمينِ من الحنينْ
أنا بانتظاركِ لا تجيئي
قد تعبتُ من المجيءِ
ومن تفاصيلِ الظنونْ
أنا بانتظاركِ
ليس عندي شرفةٌ أخرى
ولا وقتٌ لأرمي وردة أخرى
ولا كُتُبٌ أُطِّرزُ في ثناياها حماقاتي القديمةَ
أين جُلجلتي وآخرُ ما يحدده الجنونْ
أنا بانتظارِكِ لا تجيئي
عابرٌ وحدي سأشربُ من سعال سجائري
وأمرُّ مُرْتَجِّاً كمثلِ دويِّ صافرةٍ
على عشب الأرائِكِ في ثنايا قاسيونْ
فالمكان لديه ذاكرة تتوقّد بالحب، بكل مفرداته ودقائقه وتفاصيله، لدرجة أنك تشمُّ رائحةَ المكان الذي يتحدثُ عنه الشاعرُ، فيُحييه ليُحيي الملتقي فيه، وإن لم يَرَهُ أو يعرِفُهُ.
يصعبُ أن نقولَ الشاعر توفيق أحمد كلَّه في عُجالة، ولكننا في قراءة أعماله سنجدُ الشاعرَ الذي مارس الشعر ومارسَهُ الشعر ليَصير مُجلّياً في كلِّ فنونه، يُطرِبُ إذا غنّى، ويُحزُن إذا بكى، ويُفرحُ إذا شدا للحب، تقوده السلامة والعذوبة، والتشكيلُ المؤتلق .. فسلاماً يا بُحْتُريَّ
العدد 1139 – 4-4-2023