الثورة – عبد الحميد غانم:
“اعتدل.. أنت في حضرة الرئيس”، عبارة سمعها ماكرون من تشريفات الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال التقاط صورة معه خلال زيارته لبكين، التي امتثل الرئيس الفرنسي إليها، وسحب يده من جيبه واعتدل في وقفته، وقابلها بابتسامة وتلويح رأسه المهزوز.
ربما هذه الحادثة تختصر مجمل زيارة ماكرون بصحبة رئيسة المفوضية الأوروبية وأورسولا فون ديرلاين، ونتائجها الفاشلة لفرنسا والاتحاد الأوروبي، بالطلب من الرئيس بينغ وقف الحرب في أوكرانيا، وفقاً لرغبات “الأوروبي” و”الأميركي”.
لقد أيقن ماكرون بعد زيارته لبكين، أن الكثير من الأمور قد تغيرت، وأن وزن “الأوروبي” و”الأميركي” في الميزان الصيني وربما العالمي لاحقاً وقريباً، قد تغير.
فالصين المستفيد الأكبر من الزيارة، باعتبار أنها حققت عدة أهداف، سواء على المستوى التجاري أو السياسي، ولكن فيما يتعلق بالمكاسب السياسية، استطاعت بكين تقديم نفسها على أنها لاعب مهم في الساحة الدولية، والعنوان الأبرز لتذليل العقبات التي عجزت عنها القوى الغربية، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال استجداء الرئيس الفرنسي نظيره الصيني، وحثه أمام الإعلام بصورة غير مألوفة في الأعراف الدبلوماسية لوقف الحرب.
و عكست الزيارة حالة العجز الذي أصاب الولايات المتحدة وحلفاءها في الغرب، وفي المقابل، لم تقدم الصين رداً واضحاً، ولم يلزم الرئيس شي نفسه بأي ضمانات لإنهاء الحرب، ما يعني أن ماكرون ورئيسة المفوضية الأوروبية غادرا الصين خاليي الوفاض.
فزيارة ماكرون للصين هي فشل سياسي، وتعلم أنه من الصعب التحدث عن السلام بإعطاء الأوامر إلى الرئيس الصيني، فزمن الهيمنة الغربية تغير الآن، لأن القرارات لم تعد تتخذ في باريس أو واشنطن، وإنما أصبح في موسكو وبكين وعواصم أخرى.
الزيارة لم تضعف التحالف الروسي الصيني، رغم أن هذا كان الغرض الحقيقي الوحيد من هذه الزيارة، وقد لاحظت الصحافة الغربية مثل غيرها هذا الفشل.
فالرئيس شي ربما اطلع الرئيس فلاديمير بوتين على خطته لوقف الأزمة الأوكرانية خلال زيارته لموسكو قبل أسبوعين، وهي التي تضمن الأمن القومي للاتحاد الروسي، والتي تدعو إلى حل يقوم على المواثيق والقوانين الدولية من قبل المجتمع الدولي ويراعي المطالب الأمنية المشروعة لمختلف البلدان.
وهي تختلف عما يسمى بـ “السلام الأمريكي” الذي دافع عنه ماكرون، وليس هو الرؤية التي تحملها الصين.
تأتي زيارة ماكرون لبكين في وقت تغرق فيه أوروبا عميقاً بنتائج الحرب التي ساعدت الولايات المتحدة والناتو على اشتعالها، والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها على روسيا وكذلك الصين أيضاً، تلك العقوبات التي انعكست سوء حال وانتكاسات اقتصادية على الشعوب الأوروبية، التي قامت على حكوماتها، وأولها فرنسا، وهو ما دفع ماكرون إلى بكين ليستجدي الحل عند الرئيس شي.
في الوقت الذي تتسع فيه المعارضة الشعبية الأوروبية لسياسات الاتحاد الأوروبي القصيرة الرؤية – وفق النخب الثقافية والسياسية الأوروبية – وعدم إدراكها مخاطر التبعية للسياسات الأميركية وخطط الناتو (التوسع شرقاً)، ونهاياتها المدمرة على أوروبا.
ففي مواجهة هذا الوضع، أطلقت حملة إيطاليا للخروج من الحرب نداءً عاجلاً لتعبئة المواطنين الإيطاليين ضد إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، والانسحاب الفوري لإيطاليا من برامج الدعم العسكري لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، والدعوة إلى رفض استخدام القواعد العسكرية على الأراضي الإيطالية للحرب في أوكرانيا، والانسحاب الفوري للقوات المسلحة الإيطالية من أي عملية عسكرية ضد روسيا، والإنهاء الفوري للعقوبات الاقتصادية ضد روسيا واستعادة قنوات التجارة الطبيعية معها، والإنهاء الفوري لجميع أشكال مقاطعة الفنانين الروس وإعادة العلاقات الفنية والثقافية بين إيطاليا وروسيا، والطلب من الولايات المتحدة سحب أسلحتها النووية من الأراضي الإيطالية، على أساس معاهدة عدم الانتشار التي صادقت عليها الدولتان في السبعينيات.
وهذا يُلزم الولايات المتحدة، وهي دولة نووية عسكرية، بعدم نقل أسلحة نووية أو السيطرة على مثل هذه الأسلحة إلى أي شخص، بشكل مباشر أو غير مباشر وفق (المادة 1) من المعاهدة. وهو يُلزم إيطاليا، وهي دولة غير نووية عسكرياً، بألا تقبل من أي جهة، بشكل مباشر أو غير مباشر، نقل الأسلحة النووية أو السيطرة على مثل هذه الأسلحة.
هذا نموذج مما يحدث في بلد أوروبي، والحبل على الجرار، فالدعوات إلى وقف الحرب والسلام تتسع في القارة العجوز، لكن ليس ما يريده ماكرون وبايدن الذي اتصل معه قبل زيارة بكين، وإنما وفق أصحاب الحق والمدافعين عن أمن بلادهم وفق القوانين والمواثيق الدولية، والتي تؤكد عليها خطة السلام المقترحة من قبل الرئيس شي.
لكن السؤال الراهن الآن، والذي يطرح نفسه، والذي جسدته مطالب النخب الشعبية الأوروبية، وعرضنا نسخة منها في إيطاليا، كيف تلتقي دعوات السلام الرسمية الأوروبية في وقت تستمر بحشد القوات والأسلحة العسكرية الأوروبية إلى أوكرانيا، وتسمح لأميركا بنشر أسلحتها الفتاكة النووية وغيرها ضد الاتحاد الروسي، وتفتح مطاراتها العسكرية أمام الولايات المتحدة لاستخدامها في حشد القوات إلى أوكرانيا مقدمة لشن العدوان ضد الأراضي الروسية؟.
ما سمعه ماكرون في بكين، لا يختلف عما تطالب به موسكو لوقف الحرب وإقامة السلام، لكن لا تتوفر مقوماته الآن بسبب الإصرار على استمرار سياسات الغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، التي عانت منها البشرية والعالم طيلة مائة السنة الماضية من كوارث وأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، وتسببت بحربين عالميتين، وحدوث حروب ونزاعات في العالم، نتيجة محاولات الغرب الأوروبي السيطرة على العالم، ولاحقاً محاولة الولايات المتحدة الأميركية الانفراد بمستقبل العالم وإخضاعه لسياساتها، وكانت أزمة أوكرانيا من ضمنها.
العملية العسكرية الروسية عملية شرعية، وتتفهمها الصين والدول الحليفة والعالم، لأنها جاءت للقضاء على النازية الجديدة في أوكرانيا، وتعود بجذورها إلى نازية القرن الماضي، والتي تدعمها أميركا والغرب، وتنبع شرعيتها من ميثاق الأمم المتحدة التي تفوض روسيا ودول أخرى استطاعت أن تقضي على النازية القديمة في أعقاب الحرب العالمية الثانية بملاحقة النازيين والقضاء عليهم أينما وجدوا، نظراً لما سببوه في القرن الماضي بقيام حرب عالمية.
واليوم النازية في أوكرانيا، تصعد – بدعم نازيي الولايات المتحدة والغرب – الموقف الدولي نحو إشعال حرب عالمية ثالثة، وربما تكون حرب نووية نتيجة إرسال أميركا قنابل نووية وحاملات طائرات نووية إلى بعض الدول الأوروبية القريبة من الحدود الروسية.
فمن يريد السلام عليه أن يعمل لأجله، لا أن يصب الزيت على النار كما تحاول الولايات المتحدة والغرب الأوروبي والناتو، وحتى في منطقتنا، كما تحاول “إسرائيل” وحليفتها أميركا باشعال المزيد من التوتر وتهديد السلام.