ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحريرعلي قاسم:
عندما تتخطى السياسة الغربية قواعد اللعبة التي اعتادت عليها على مدى أكثر من قرن من الزمن، يصبح الحديث عن خطوط الطول والعرض في السياسة الدولية مجرد عبث سياسي وإعلامي لا طائل منه،
وتتحول الأسس والمعايير إلى نقاش يعلوه الترف أو إلى جدل تكسوه الرفاهية السياسية المفرطة.
العبث الغربي لا يقتصر على قواعد اللعبة فحسب، ولايكتفي بتجاوز الخطوط الممتدة في أعراف السياسة الغربية تجاه المنطقة، بل وصل إلى حدود العبث بالخرائط ومكوناتها العرقية والدينية والإثنية، بحثاً عن تشكيلات تتواءم مع النموذج الجديد للهيمنة الذي اقتضت الضرورة التاريخية أن يعيد رسم إحداثياتها بحكم انتهاء صلاحية الأدوار الوظيفية لتلك الإحداثيات.
في التجارب التاريخية الممتدة اقتضى العبث بالخرائط أن يكون نهاية حقبة من الصراع الدولي، وفي أحيان كثيرة بعد أن تضع المواجهة الساخنة والحروب الكبرى أو الصغرى أوزارها حيث تتقاسم الدول المنتصرة في العادة إعادة توزيع الخرائط على مقاس أطماعها وعلى ضوء مساهماتها في المواجهات المفصلية.
اليوم يحاول الغرب بشقيه الأوروبي والأميركي أن يقلب المعادلة حين يعيد ترتيب الخرائط قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود في المواجهات العالمية، حيث اكتفى بحروب الوكالة إلا في استثناءات بسيطة ومحدودة، وأراد أن يبني على أساس تلك الحروب خرائط تصلح للتداول السياسي ريثما تضع النزاعات نقاط تمركزها على المحاور الجديدة.
عملية الاستباق الغربي لا تكتفي بما تمليه من تغيير في قواعد اللعبة ومعادلات الهيمنة بنماذجها المختلفة، بل تشمل أيضاً تقديم رسائل تفصح عمّا تبطنه وتتسرع في إعلان أهدافها المسبقة، وتبني في أحيان كثيرة مشاريع تلك الخرائط على الأساس الافتراضي الذي بات في جزء منه في مهب الريح بعد أن أثبتت التطورات والأحداث استحالة التطبيق وفشل البديل!!
بعض التفسيرات الجزئية ترى في ذلك السلوك دليلاً حسياً على أن المشاريع الغربية في المنطقة فشلت في الأسلوب ولم تسحب من التداول، وأن العجز عن تحقيقها في جوانب أساسية لا يعني تحييدها أو إلغاءها، بقدر ما كان الاستبدال أو التغيير يطول الأدوات والوكلاء عبر الاستحضار لبعضهم، واستبعاد بعضهم الآخر أو تحييده بشكل مؤقت أو دائم، أو من خلال إدخال نماذج محدّثة لتلك الوكالات تم تسمينها غربياً وتهجينها إسرائيلياً.
لكن في عمق الهدف الغربي تبدو المسائل مختلفة كلياً، لأن التغيير هنا كان جذرياً وانقلابياً في الطريقة وعملية الرسم المسبق للخرائط، ثم العمل على إشعال الحروب والنزاعات على ضوء الحاجة، أو وفق ما تطلبه عملية تثبيت تلك الخرائط، وهذا ما تعمق حضوره في المشاهد التالية التي تلت الفشل في تحقيق المشروع الغربي في سورية، والذي اقتضى أن تتم تجربة كل الخيارات، وحين عجزت لجأت إلى سياسة العبث بالخرائط قبل أن تنتهي المواجهة وقبل أن تبدأ في أكثر جوانبها سخونة.
العامل الثاني الإضافي الذي أدخلته سياسة البدائل كان بتوسيع ساحة المواجهة، بحيث تحولت المنطقة بأسرها إلى جبهات محتملة، ولا تستبعد من حساباتها الامتدادات الجزئية أو الكلية خارج المنطقة، بحيث يمتد رسم الخرائط على وقع الجبهات، وليس هناك ما يلزم أميركا بأن يقتصر على المنطقة، في عملية تضليل لمنسوب النفاق الغربي داخل الأدوار الوظيفية التي تجاوزت النطاق الحيوي لنفوذها التقليدي في حقبة ما بعد الحرب الباردة.
على هذا الأساس يمكن فهم أسباب الإفصاح عن المشروع البريطاني في هذا التوقيت لتدريب وتجهيز أكثر من مئة ألف مرتزق لخوض حرب الوكالة في سورية، ووفق معاييره يمكن فهم الحماسة الفرنسية لأي عدوان أميركي ضد سورية، وبأي شكل كان، ولماذا شعر الأليزيه وساكنوه بالخيبة ومعهم الكثير من الأدوات الوظيفية في المنطقة حين تراجعت أميركا عن ذلك، باعتباره يلغي الدور البريطاني الفرنسي في إعداد الرسوم الأولية للخرائط المراد فرضها على المنطقة بحيثياتها العرقية والإثنية والدينية.
التعويض الأميركي بإنشاء جبهات للمواجهة وفق حاجة الخرائط التي تريدها على مقاس هيمنتها بنسخها المعدلة يوازي خطورة العبث بالخرائط، لكنه في الحسابات والمعادلات البديلة قد يكون أهون الشرين، ولو اقتضى ذلك الدفع بالعالم للانزلاق على صفيح ساخن، بل وملتهب سيفضي في النهاية إلى تأجيج المعارك المفتوحة على الصعيد الإقليمي، ويؤسس لجبهات ساخنة على نطاق دولي أوسع.
خرائط المنطقة ليست للتجريب، وشعوبها ودولها ليست حقول اختبار، والعبث بها تجريباً كان أم تطبيقاً أم تلويحاً للتهديد لايصلح للتغطية على العجز والفشل, والإصرار على اللعب بفتيل البارود لم يعد تخميناً ولا هو مجرد استنتاج في التحليلات، بل تعكسه المحاولات المستميتة للعبث بمكونات الجغرافيا العالمية، ولو اقتضى الأمر التفكير بخيارات الانتحار السياسي من بوابة المنطقة!!
a.ka667@yahoo.com