ثورة أون لاين:
د. فيصل المقداد
نائب وزير الخارجية السورية
نار الإرهاب التي أشعلتها الدوائر الغربية في سورية والعراق والمنطقة عموماً ستكوي بلهيبها من أشعلها، عاجلاً أو آجلاً. ولم يعد النفاق الأميركي الفرنسي البريطاني وأدواته في المنطقة والعالم قادراً على إقناع أي كان بادعاء هؤلاء مكافحة الإرهاب وتنظيمات مثل «داعش» و«جبهة النصرة» و«الجبهة الإسلامية» وغيرها كثير. فالولايات المتحدة الأميركية أطلقتْ سراح الشخص الثاني في القاعدة عبد الحكيم بلحاج الذي أصبح الحاكم العسكري للعاصمة الليبية طرابلس. والأكثر من ذلك هو أنّ ليبيا تحوّلتْ بفضل الغزو الأميركي الأوروبي لهذا البلد العربي إلى مرتع للإرهاب من أقصاها شرقاً إلى أقصاها غرباً، ومن شمالها إلى جنوبها. بل أنّ «الثورجي» الذي يمثل ليبيا في الأمم المتحدة أعلن قبل أيام أنّ بلاده كلّها أصبحتْ خاضعة للإرهابيين. والحقيقة أنّه لم تعد هناك دولة في ليبيا.
أمّا العثمانيون الجدد في اسطنبول والذين يعتزون بترويجهم لمشروع «الشرق الأوسط الكبير» فإنّهم هم الذين رفعوا عالياً رايات الإرهابيين على أرضهم ودعموهم وسلّحوهم ومولوهم وأدخلوهم إلى سورية لإعلان خلافة الإخوان المسلمين في المنطقة كلّها، فهم الآن حائرون تائهون يتسولون كلمة هنا وتصريحاً هناك للتغطية على دورهم في دعم الإرهابيين خصوصاً «دولة الإسلام في العراق والشام» داعش التي قدّموا إليها الدعم الكامل لقتل السوريين والعراقيين. إلاًّ أنّ داعش، كما هو حال الوحوش، بدأتْ بنهش من أطلقها من عقالها. الآن، وبعدما تمددتْ «داعش» في الشمال السوري والعراق، بدأتْ الحكومة التركية بدفع فاتورة دعمها لهذا التنظيم الإرهابي وغيره.
منذ اليوم الأوّل للعدوان الإرهابي على سورية قال الرئيس بشار الأسد إنّ ما يحصل في سورية هو حرب إرهابية على سورية. وأضاف السيّد الرئيس: إذا لم تقف هذه الحرب فوراً فإنّها ستتمدد إلى أنحاء أخرى من المنطقة وستصل بلهيبها إلى خارج المنطقة وسيتأثر بنيرانها العالم كله.
الآن، وبعدما ثبتتْ صحّة أقوال الرئيس الأسد، وعرف أعداء سورية أنّ من يخرج الجنّي من الزجاجة في وقت ما، لن يبقى قادراً على إعادته إلى الزجاجة في وقت آخر. وها هم أسياد الإرهاب في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وتركيا والسعودية لا يتوقفون عن الكذب وتضليل شعوبهم والرأي العام العالمي، محاولين تبرير تواطئهم مع الإرهابيين وغبائهم في فهم التطورات وإبعاد أنفسهم عن الجريمة التي اقترفوها في حق سورية، وحالياً بحق العراق وباقي دول المنطقة وما بعدها. ترى هؤلاء الآن يفركون أياديهم حيرة وتحسّراً ويتصبب العرق من جباههم خجلاً، خصوصاً عندما يحاولون الدفاع عن إفلاسهم وانفضاح حقيقة جرائمهم.
سمعنا كثيراً روايات عن استقالة وزراء غربيين إذا ارتكب أحدهم مخالفة مرورية أو أقام علاقة عاطفية عابرة خارج أطر الزوجية، أو مخالفات أخرى لا ترقى إلى أن تكون جرائم في حق الوطن والدول الأخرى، فمتى يخجل هيغ وكيري وفابيوس الذين برروا الإرهاب وسفكوا دماء السوريين؟ أما عملاء هؤلاء من مسؤولي الخليج فهم أصلاً لا حياء فيهم! أيعقل أن يستمر صمت برلمانات الدول الغربية وأجهزة إعلامها ومجتمعاتها المدنية ببساطة حول دعم رؤساء ووزراء خارجية دولهم للمجموعات الإرهابية التي تقتل السوريين وتدمّر الإرث الحضاري لشعب عريق وعظيم كالشعب السوري لأكثر من ثلاث سنوات؟ والأدهى من ذلك أن تُقلب الحقائق ويتهم هؤلاء شعب سورية وجيشها وقيادتها ويدبجون التقارير السخيفة، بما نربأ قوله، هرباً من الحقيقة وبدلاً من ملاحقة الإرهابيين الذين جاء العديد منهم من أميركا وأوروبا وانضمّوا إلى «داعش»؟ لا نستغرب ذلك، فقد تحوّلتْ هذه القيادات الغربية عملياً إلى داعم مكشوف للإرهاب.
هل يمكن لعاقل أن يصدّق أنّ مشاركة ألوف المقاتلين الإرهابيين الأجانب من أكثر من 80 بلداً في الحرب على سورية والآن على العراق كان من وراء ظهر هؤلاء المسؤولين وأجهزة استخباراتهم؟ ألا يجب أن يدفعنا ذلك إلى التساؤل حول مدى احترام هذه الحكومات التزاماتها في مجال مكافحة الإرهاب وطرح أهميّة مساءلة هذه الدول؟ لقد بات واضحاً أنّ الهاجس الحقيقي للإدارة الأميركية الآن إطالة أمد الحرب واستنزاف سورية من ناحية، ومنع التوصّل إلى حل سياسي للوضع الذي تشهده سورية من ناحية أخرى.
اعتمدتْ الجمعية العامّة للأمم المتحدة قبل بضعة أيام قراراً آخر لدعم استراتيجية الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب التي أقرتها عام 2006، جدّدتْ فيه التزام الدول الأعضاء بتعزيز التعاون الدولي لمنع الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره ومكافحته وضرورة محاسبة مموليه وداعميه والذين يقدّمون إليه السلاح. إلاَّ أنّ المهم في هذا المجال مدى التزام الكثير من الدول التي دعمتْ هذا القرار وما ينص عليه، خصوصاً أولئك الذين يدّعون أنّهم أبطال مكافحة الإرهاب. فعندما وجه أحد أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية فيليب لونييه سؤالاً إلى وزير خارجيته فابيوس عما إذا كانتْ فرنسا ستتدخّل لدى تركيا لإغلاق قواعد الإسلامويين على أرضها كونها تستخدم قواعد خلفية للمجرمين الإسلامويين لارتكاب أعمال وحشية في سورية، كان جواب فابيوس، على ما ذكرتْ إحدى الصحف، مثل التاجر المفلس الذي لم يبقَ في خزانته ما ينفقه فعاد إلى دفاتره القديمة ليدافع عن فكرة التدخّل الأميركي – البريطاني – الفرنسي لضرب سورية عسكرياً. وذكرتْ تلك الصحفية أنّ النائب لونييه عرض وقائع حيّة وملموسة حول جرائم المجموعات الإرهابية المرعبة التي أرسلتها تركيا إلى كسب، وأنّ الإرهابيين المدعومين من قِبَل رجب طيب أردوغان مارسوا التطهير العرقي والديني والثقافي في سورية وأنّهم يغتصبون النساء ويرتكبون الجرائم بالاعتماد على الدعم التركي.
الجميع في المنطقة وخارجها يعرفون الآن أنّ ما يحدث في سورية والعراق ولبنان، خصوصاً في العراق حديثاً ليس حرباً طائفية بل حرب بين الإرهاب والذين يكافحون الإرهاب، حرب بين الإرهابيين الذين ينفذون التعليمات الأميركية والغربية ودعاة استغلال الشعوب والشرفاء الذين ينشدون الأمن والسلام والتقدّم لشعوبهم، حرب بين الإنسانية من ناحية والوحشية والهمجية من ناحية أخرى. وهنا نُعيد التأكيد أنّه على رغم مضي عشر سنوات على الغزو الأمركي للعراق فإنّ أميركا لم تتراجع عن أهداف غزوها بل على العكس، ما زالت خطة بايدن لتقسيم العراق، على سبيل المثال، غاية تسعى الإدارة الأميركية إلى تنفيذها، ناهيك عن خطة بوش وبلير لتفتيت هذا البلد. وتعرف «إسرائيل» ورجالاتها من الخليجيين والغربيين أنه لا يمكن تحقيق ذلك من دون إثارة النعرات الطائفية والعشائرية والإثنية، تماماً مثلما تفعل «داعش» وحلفاؤها الآن في العراق.
إنّ العدوان الذي قامتْ به الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام المعروفة باسم «داعش»، نيابةً عن أطراف إقليمية ودولية ضد سيادة العراق ووحدة شعبه، هو عدوان خطير لا يجب تقليل حجم أخطاره على المنطقة وغيرها.
وقع رئيس الولايات المتحدة الأميركية السابق جورج بوش وصاحبه توني بلير في «غرام العراق» إلى درجة قيامها مع من تحالفا معه من دول أوروبية وخليجية في غزو العراق عام 2003، ترجمة لذك «الغرام»! واستخدم هؤلاء ذرائع تصفية برامج أسلحة الدمار الشامل ومكافحة الإرهاب للهجوم على العراق. وثبت لاحقاً أنّه لم تكن هناك أسلحة دمار شامل ولا إرهاب في هذا البلد. إلاَّ أنّ الغزو الأميركي البريطاني أوجد وضعاً جاذباً حقيقياً للإرهاب فجاءتْ «القاعدة» ورسّختْ وجودها في العراق بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، ومن هناك انتشرتْ إلى باقي دول المنطقة. وفي إطار الحقد الطائفي الأعمى والحسابات الضيقة الغبية لقادة السعودية وكثير من «الجمعيات الخيرية» وغيرها المرتبطة بالدوائر الغربية والإرهابية، مُوّلت القاعدة وتفرعاتها في العراق ومنها داعش لتوسيع نشاطاتها، بما في ذلك سورية. ولم نسمع من مسؤولي الخارجية والخزانة الأميركية الذين يراقبون مدى تنفيذ دول العالم لعقوباتهم على سورية وروسيا أنّهم فرضوا عقوبة واحدة على هذه الجمعيات والأشخاص الذين مولوا الإرهاب، في حين تفرض الإدارة الأمريكية واتحادها الأوروبي عقوبات على وزراء سوريين لا ذنب لهم إلاَّ محبتهم لوطنهم وإخلاصهم له!
بعد ثلاث سنوات من صمود سورية في وجه العدوان والحرب المعلنة عليها، لم تجد الدوائر الغربية سوى العودة إلى أدواتها المختبرة في تخريب نسيج دولنا الاجتماعي وتدمير منجزاتنا وممتلكات شعبنا. واستنتج المتآمرون بقيادة الولايات المتحدة أنّ «ثوراتهم» المتأسلمة التي عملوا على أن تسود المنطقة خلال عقود قادمة وصلتْ إلى طريق مسدود. وتطلّب ذلك منهم إعادة رسم مخططاتهم من خلال إحداث اختراق عبر البوابة العراقية يؤثّر في سورية وفي الأوضاع العامّة في المنطقة، بما يخدم أولاً مصالح «إسرائيل» وتركيا والسعودية ومن خلف هؤلاء المصالح الأميركية والفرنسية والبريطانية وعملاء هؤلاء داخل العراق. وشجعت أعداء العراق على هذه الالتفافة ومتابعة نهج تدمير العراق تلك العودة إلى استثمار النتائج التي أسفر عنها الغزو الأميركي للعراق، خصوصاً نتائج قيام الحاكم بريمر بحل الجيش العراقي ومنع تسليح الجيش الجديد ضمن الحد الأدنى المطلوب، وولاء بعض القادة للغرب ومخططاته أكثر من ولائهم لوحدة أرض وشعب العراق.
الغريب في التحرّك الأميركي الغربي الحالي هو أنّه ليس موجّهاً إلى وقف الإرهاب ومكافحته، بل هو خلافاً لجميع ادعاءات الغرب حول احترام الانتخابات والديمقراطية موجّه على التآمر على نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة والعمل على إلغائها أو منع الفائز فيها من تشكيل الحكومة ومن تنفيذ برنامجه الانتخابي لمصلحة أجندات تخدم المجموعات الإرهابية وتفتيت وحدة الشعب العراقي وهويته الوطنية بدلاً من التنادي لمواجهة «داعش» ووقف إرهابها. ويعتقد أصحاب هذه المؤامرة أنّ ذلك سيقود أيضاً إلى تقوية رجب طيب أردوغان وبرنامجه «الاخونجي» الذي أفشله الصمود السوري، خصوصاً أنّه لا يمكن تجاهل آثار مثل هذا العدوان الإرهابي «الداعشي» على الأوضاع السورية العراقية من جهة، ودمج أهداف «داعش» في العراق وسورية لإقامة المرحلة الأولى من دولة الخلافة الإسلامية التي تدفع إليها جهات هدفها سحق العروبة ووضع شعوبها على هامش حركة التاريخ واستغلال ثرواتنا حتّى نضوبها واستعبادنا بتخلفنا ودناءة بعض قيادات العربان وانحطاطها.
في حين ينبغي التأكيد على أهمية استمرار الرد الحاسم سورياً وعراقياً على ما حدث، أؤكّد أنّ التقدّم الذي يحققه الجيش العراقي بعد استعادته لزمام المبادرة، إضافةً إلى استمرار صمود الجيش العربي السوري وتحقيقه ضربات موجعة لتنظيم «داعش» داخل سورية، يدفع إلى الاعتقاد أنّ هذه التطورات تبرز أيضاً ضرورة التحرّك الفوري إقليمياً ودولياً لوقف تقدّم «داعش» وبالتالي تحقيق هزيمتها.
إنّ الخطر الحقيقي الذي تواجهه المنطقة الآن هو خطر الإرهاب. ومهما حاولتْ الدول الغربية والمنظمات الدولية التي تسير وفق أهوائها من حرف الانتباه عن حقيقة الكارثة التي ستدفع ثمنها المنطقة والعالم، فإنّ الصورة أصبحتْ أكثر من واضحة لجهة التنظيمات التي تُمارس الإرهاب سواءً كان اسم هذه المجموعات الإرهابية «داعش»، أو «جبهة النصرة» أو «الجبهة الإسلامية» وغيرها من عشرات أو مئات التنظيمات التي تنمو مثل الفطر نتيجة تمويلها الخليجي الغربي ما يوفر التربة المناسبة لإجرامها. أمّا ما يًسمّى «الجيش الحر المعتدل» في سورية فلم تبق له عملياً أيّ قيمة في الميدان لأنّ معظم أعضائه انضمّوا إلى جبهة النصرة و«داعش»، والباقي عاد إلى حضن الوطن بعدما وعى حجم المؤامرة على أهله.
لكن يبقى أن نؤكّد أنّ «داعش» هو أخطر تنظيم دموي إرهابي في العالم، وقادته من أشرس عناصر القاعدة الأفغان والشيشان والأردنيين والمغاربة، وهو يملك موارد مالية هائلة يوفرها القائمون عليه في دول الخليج، ولديه أسلحة متطورة وخاصّةً الأميركية. ولو نجحتْ خلافة «داعش» فإنّها ستكون على حدود أوروبا مع ما يعنيه ذلك من خطر كبير على الأمن والسلم الدوليين.
إنّ الدول التي تتآمر على سورية اليوم هي نفسها التي تتآمر على العراق بقيادة الولايات المتحدة. لذلك، أصبحتْ قضية التضامن مع العراق والوقوف القومي إلى جانبه بمختلف الامكانات في هذه المرحلة أمراً مهماً وحيوياً، اليوم قبل الغد، لمساعدته في مواجهة خطري الإرهاب والتقسيم. إنّ تنظيم «القاعدة» والمرتبطين به وتنظيم «داعش» يستوجب أن تقوم جميع الدول بتفعيل نظام الجزاءات المفروضة عالمياً على الكيانات الإرهابية ومنها «داعش» عملاً بقرارات مجلس الأمن في سائر البلدان من دون استثناء. ولم يعد ممكناً قبول ممارسة التهرّب من هذه المسؤولية تحت أيّ ذريعة. فعندما يعلن أبو بكر البغدادي نفسه «خليفة للمؤمنين» في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية»، فإنّ أي محاولة لخلط الأوراق على الساحة العراقية أو على الساحة السورية أو في المنطقة أصبحتْ غير مقبولة لا سياسياً ولا أخلاقياً ولا أمنياً.
حديثاً لجأتْ دوائر دعم الإرهاب التي تتذاكى لتبرير فشلها إلى الترويج لمفاهيم لا يقبل بها العقل أو المنطق. ولهذا الغرض استخدم هؤلاء تعبير «المجموعات المسلحة المعتدلة» و«المجموعات المسلحة المتطرفة». وقالوا، في هذا الصدد، إنهم يدعمون «المجموعات المسلحة المعتدلة» في سورية ويقدمون إليها المال والسلاح والتدريب والمساعدات الفتاكة وغير الفتاكة. أما في العراق فهم يدّعون أنّهم يقفون ضد هذه القوى التي وصفوها «المجموعات المسلحة المتطرفة». وإذا كان هؤلاء يضللون أنفسهم وشعوبهم وبرلماناتهم ووسائل إعلامهم هم لا يستطيعون تضليلنا. الإرهاب في سورية هو الإرهاب في العراق، وستقف سورية ضد هذا الإرهاب «معتدلاً» كان أو متطرفاً. الإرهاب هو الإرهاب، ونحن ضد الإرهاب في العراق وليبيا ولبنان ومصر واليمن وتونس وفي أوروبا وأميركا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والصين وباكستان وأفغانستان، وفي أي مكان في العالم.
تحدثتُ قبل عدّة أيام مع صديقي الضيف الزائر لدمشق عن التناقضات التي تلف السياسات الأميركية في المنطقة خصوصاً تصريحات الإدارة الأميركية الأخيرة، فقلت: كيف يقول الرئيس الأميركي أن لا معارضة قوية في سورية، وإن هذه المعارضة لم تكن في يوم من الأيام قادرة على «إسقاط النظام» وأن مثل هذه الأفكار حول إسقاط النظام هي «فانتازيا»، فيما تتبرّع إدارته في اليوم التالي بمبلغ 500 مليون دولار لهذه المعارضة الوهمية! قال صديقي: ولماذا تستغرب ذلك، فإن أكثر هذا المبلغ سيذهب أولاً للمتعاقدين الأميركيين، وسيذهب الباقي لتسديد تكاليف الفنادق التي تقيم فيها هذه المعارضة «المعتدلة» ونفقات تذاكر سفرها ورشى ونفقات لأشياء أخرى تعرفونها أكثر منا، وبعد ذلك ستباع الأسلحة التي تُشرى بما تبقّى من الدولارات من المعارضة المسلّحة «المعتدلة» إلى المعارضة المتطرّفة وغيرها. لا تخافوا يا صديقي فأنتم ونحن نعرف اللعبة، ونحن معكم.
منذ احتلال «داعش» شمال العراق، تقاطرت إلى بغداد وأربيل وفود كثيرة أميركية وبريطانية وغيرها لتقديم النصح إلى العراقيين حول ما يجب فعله. ولاحظنا إجماعاً بين هؤلاء على أمر واحد: لا تحاربوا الغزاة، اتفقوا بينكم أيها العراقيون على حل مشاكلكم، شكلوا حكومة تشمل الجميع وأشياء أخرى لا تستحق الذكر. لم يقل أي من هؤلاء أنه سيدعم العراق ضد الإرهاب، ولم يقل هؤلاء للعراقيين أنهم سيقدمون إليهم مساعدات فتاكة وغير فتاكة لمقاومة المتطرفين، بل مئة وثمانين عسكرياً أميركياً فحسب لحماية السفارة والمصالح الأميركية في العراق «ولمراقبة التطورات»، أي «للتجسس» بكلمات مباشرة. وبلع هؤلاء ألسنتهم حين تعلق الأمر بوحدة أرض العراق وشعبه التي أكدت عليها جميع قرارات مجلس الأمن المعروفة. ولإنقاذ ماء الوجه، قد تقوم الإدارة الأميركية بعمل هنا، وتحرّك هناك، إلاَّ أنّ ذلك لا يمكن أن يقنعنا بجديتها في محاربة هذا الإرهاب.
تتهرّب الولايات المتحدة وحلفاؤها الآن من ممارسة دورهم في وضع حد للإرهاب «الداعشي» في العراق، ويتذرعون كذباً بأن الجولات التي يقوم بها وزراء خارجيتهم بين دول المنطقة هي دليل على سعيهم إلى حل هذه الكارثة. إلا أن التصريحات الأميركية الحقيقية التي نتابعها من واشنطن لا تشير إلى ذلك.
إن ما يحصل على الأرض من ترسيخ لتقسيم العراق وتثبيت لخطوط الدول المسخ التي ينوون إنشاءها، وإعطاء صدقية لما يشيعه البعض من أن المشكلة التي يواجهها العراق تتعلق بطريقة حكمه خلال السنوات الماضية، هي ذرائع واهية هدفها الوحيد استغلال عامل الوقت لتثبيت الوقائع على الأرض والوصول إلى النتيجة المطلوبة وهي تقسيم العراق وتهديد وحدة سائر دول المنطقة. وما يعزز هذه القناعة لدينا أننا لم نشهد تحركاً دولياً متكاملاً يكون في حده الأدنى ضد إرهاب «داعش»، سواء كان في مجلس الأمن او في المستعمرة الأميركية المسماة «الجامعة العربية»، التي تهرع إلى عقد اجتماعات لدى وقوع حوادث أقل خطورة من الأوضاع التي يواجهها العراق.
أما المملكة السعودية التي تقف خلف هذا الخراب كله في الوطن العربي وتدمير مؤسسات العمل القومي العربي المشترك، فإنّ دبلوماسيتها سارعت إلى القيام بحملة عالمية مضللة لكي لا يفتضح دعمها للإرهاب إذ أوحت لأدواتها للترويج بأنّها ضد «داعش» وأنها ضد الإرهاب وأنها ضحية للإرهاب وخصصت مئات الملايين من الدولارات لحملة العلاقات العامة هذه! أمّا المهزلة الأخيرة فهي تقديم العائلة السعودية مبلغ خمسمئة مليون دولار مساعدة للشعب العراقي، لكن العارفين يقولون إنّ هذا المبلغ سيذهب إلى «داعش».
لكن، ألا يكفي أن نستمع إلى الدعاية السعودية بأن المشكلة ليست في «داعش»، بل في الشعب العراقي ومسؤوليه، كي نفهم حقيقة ما يحصل في هذا البلد العربي. بل إنّ السعوديين يبرّرون ما تقوم به «داعش» ويقولون أنها لا تشارك إلا بنسبة قليلة من الرجال في المعارك، وان الأغلبية هي من عشائر وتنظيمات العراقيين الآخرين. ونحن نربأ برجالات العراق وعشائره العربية النبيلة وقواه الوطنية والدينية أن تتورّط في مخططات لتقسيم بلدها وتفتيت وحدته كما يريد آل سعود وسادتهم.
ما تقدم بقدر ما يعني فضيحة أخلاقية للغرب وأتباعه يطرح السؤال حول الوظيفة الجهنمية التي أناطها الغرب بهذا الجيل المهجن من «القاعدة»، الذي يضع نصب عينيه تدمير كل ما هو جميل ومشرق ومشرف في بلاد العرب والمسلمين، ضمن ما يسميه بعض المحللين في الغرب بالتحالف مع الشيطان نكاية بالملائكة، هذه الصفقة المشبوهة تقوم على ضمان حكام الغرب أن بلادهم ستحترق تحت ضربات الإرهاب العائد، من بلادنا، لكن رهانهم أن هذا لن يحدث في أيام حكمهم، وهذا بات يكفيهم للدخول في هذه اللعبة القذرة.
تكشفت المؤامرة وبان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويقول كثيرون إنّ سورية تدفع منذ ثلاث سنوات ثمن رفضها لطلبات كولن باول الذي زارها بعد اتمام الجيش الأميركي احتلاله للعراق، وذلك صحيح. لكن سورية الأصيلة والصامدة تؤكّد مثل الأمس رفضها الاحتلال الأميركي للعراق ومحاولات تفتيته، ورفضها التدخل من أي كان في شؤونها الداخلية ورفضها الابتعاد عن المقاومة ومحورها.
وها هي سورية المؤسسة لتاريخ جديد من خلال الانتخابات الرئاسية التي أكّدتْ ثقة الشعب السوري المطلق بقيادته ونهجها الوطني والقومي والتحرري المقاوم، تكرر ثقتها بصمودها وحتمية انتصارها.
صحيفة البناء