تعرضت سورية منذ أكثر من عشر سنوات لمحاولات حصار عليها بهدف عزلها عن فضائها العربي ووسيلة للضغط بهدف الابتزاز السياسي ومحاولة تشويه نظامها المستند إلى شرعية شعبية ودستورية. وكان الاعتقاد السائد أنه يمكن لمعارضة أو لنقل معارضات خارجية أن تكون بديلاً للسلطة، يؤتى به عبر فائض القوة الخارجي كما جرى في العراق قبل عقدين من الزمن، ولكن ما حصل هو عكس ذلك تماماً، حيث استطاعت سورية بفضل صمود قيادتها وثباتها وقوى جيشها وتضحياته الجسيمة والتفاف حيز واسع من شعبها حول قيادته أن تسقط ذلك المشروع والمخطط الذي رسمته قوى خارجية رأت فيه مدخلاً لتغيير خريطة المنطقة، وبما ينسجم مع مصالح الغرب والكيان الصهيوني على وجه التحديد.
سورية بثباتها وإسقاطها لمشروعين خطيرين استهدفا المنطقة وهما ما سمي شرق أوسط جديد والمشروع الإخواني العثماني الذي قاده أردوغان وحزبه وحكومته بالتنسيق مع قوى تتقاطع مع مشروعه الإخواني وتغذيه، لم تقف عند حدود إسقاط المشروعين المشار إليهما، ولكنها استطاعت أن تنسج علاقات مع قوى كبرى إقليمية ودولية وازنة وتصبح جزءاً مهماً من منظومة صاعدة على المستوى العالمي ولم تعد (نظاماً) معزولاً ضعيفاً يحتاج إلى حامل خارجي أو ملعباً لقوى خارجية، بل احتفظت بأوراق قوة حقيقية في كل الساحات الساخنة في المنطقة سواء في فلسطين أم لبنان أو العراق واليمن إضافة إلى خبرتها في مكافحة الإرهاب، وتمكنها من لجمه ومعرفة تضاريسه وتحركاته وخططه في المنطقة والعالم.
أوراق القوة هذه مع تكريس واقع على الأرض لم يستطع احد تغييره، جعل الكثير من القوى الإقليمية والدولية تراجع مواقفها من دمشق وتعيد حساباتها السياسية في ظل تبدل في المشهد الإقليمي والدولي بعد الحرب في أوكرانيا والمواجهة الساخنة بين أميركا وجمهورية الصين الشعبية، يشير بشكل واضح إلى إرهاصات أولى لتشكيل نظام عالمي جديد سياسي واقتصادي وأمني لن تكون أميركا اللاعب الوحيد فيه، وإنما قوة كبرى إلى جانب الصين وروسيا وقوى أخرى صاعدة كالبرازيل والهند وغيرهما.
هذا التحول الحاصل في موازين القوى الدولية في غير مصلحة أميركا، والغرب منح فرصة لبعض الدول التي كانت تخضع للهيمنة او الابتزاز الأميركي أن تخرج عن (بيت الطاعة) وتتحرر من السطوة الأميركية، فبدأت تتخذ سياسات عقلانية وواقعية ولمصلحة شعوبها، فاتجهت نحو الصين الشعبية القطب الصاعد واتحاد روسيا وأقامت معها علاقات وشراكات ذات طابع استراتيجي اقتصادي وسياسي وعسكري يصب في مصلحة الطرفين وشعوب المنطقة في مقدمة تلك الدول المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ولم تقف هذه المسألة عندحدود تلك العلاقة، بل فوجئ العالم بما جرى في بكين من اتفاق سعودي إيراني برعاية وضمانة صينية يفتح صفحة في العلاقة بين البلدين تقوم على التعاون بدل التنافر والصراع، وسيكون له تأثير كبير على المشهد السياسي والصراعي في المنطقة ويغير في شكل التحالفات والاصطفافات والاستقطاب الحاصل فيها بما لايصب في مصالح الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية التي ثبت لحلفائها أنها تستمر في ادارة الصراعات بل وتأجيجها وتعمل على استنزاف خصومها وحلفائها او لنقل زبائنها لأنها اصلا لا تؤمن بفكرة الصداقة بحكم ثقافتها السياسية وسلوكها العملي.
على خلفية ذلك بدأ بعض القادة العرب ولاسيما في الخليج العربي ومصر يقاربون العلاقة مع سورية مقاربة واقعية وعقلانية تصب في مصلحة الجميع وضمن تفكير جديد يعمل على انشاء نظام اقليمي عربي يخرج الدول العربية -إن استكمل دورته- من مسألة الاستقطابات العابرة للحدود العربية والتكتلات والمحاور الخارجية ويؤسس لمنظومة أمن قومي عربي عسكري واقتصادي واجتماعي مع علاقات حسن جوار مع دول المنطقة تقوم على التعاون في مجالات التنمية والتجارة البينية وتعزيز اواصر الصداقة معها سيما وأن ثمة روابط تاريخية حقيقية بين شعوبها ودولها وضمن هذا التفكير السليم والصحيح كان لابد من تصحيح العلاقة مع دمشق التي تملك كل اوراق القوة التي اشرنا اليها فبدونها لا يستقيم أي نظام اقليمي عربي مأمول ولا يمكن لساحات المواجهة أن تهدأ وتستقر فالعشرية السوداء اثبتت للعرب وجوارهم أن لا استقرار بدون سورية ولا جبهة عربية قوية بدونها ولا جامعة عربية سورية ليست عنصرا فاعلا فيها اضافة إلى ان قطار التطبيع والتحالفات الضارة بالعرب والتي تصب في خدمة الكيان الصهيوني لن تتوقف إلا بعودة سورية لحضنها العربي واستطراداً الجامعة العربية ففي غياب الصوت السوري فيها علا صوت التطبيع والمطبعين وهذه العودة المظفرة تصب في خدمة القضية المركزية للامة العربية قضية فلسطين.
ولاشك أن تصحيح العلاقة مع دمشق ستصب في مصلحة الدولة السورية والشعب السوري، لأن سورية التي يقف خلفها العرب قادرة على التعامل مع التركي الذي يحتل جزءاً من أرضها بقوة أكبر وتجبره على مغادرة أراضيها إضافة لعودة سيادتها للمنطقة الشرقية التي تسيطر عليها ميليشيا قسد الانفصالية بغطاء أميركي وبشروط دمشق لا اشتراطاتهم حيث استغل متزعمو ما يسمى قسد حالة انشغال الدولة السورية بمكافحة الإرهاب والتهديدات الخارجية والعدوان الإسرائيلي المستمر عليها بمحاولة فرض أمر واقع في المنطقة الشمالية الشرقية والحصول على مكاسب تخدم القوى الخارجية والمشاريع الانفصالية التي تتبناها أميركا وإسرائيل في قراءة خاطئة لموقف القيادة في سورية، وعلى رأسها سيادة الرئيس بشار الأسد الذي يعرف الجميع ثباته ومبدئية مواقفه وحرصه على عدم التفريط بذرة تراب من الأرض السورية والسيادة الكاملة عليها والتمسك بكل مواد الدستور النافذ والذي أقسم عليه وهو المعبر عن إرادة الشعب العربي السوري في شكل وطبيعة نظامه السياسي ووحدة أراضي الجمهورية العربية السورية، وأن الشعب العربي السوري جزء من أمة عربية واحدة.
مما سبق نرى أن الانفتاح على دمشق وتصحيح العلاقة معها يصب في مصلحة الجميع، ويوفر أرضية صحيحة لحل سياسي سوري سوري عبر حوار وطني يكون قد سبقه استعادة كاملة للجغرافية الوطنية وبسط للسيادة السورية على كامل أراضيها وقضاء على الإرهاب وتوفير بنية تحتية وإعادة بناء ما دمرته الحرب، ما يفسح في المجال لعودة اللاجئين والنازحين إلى وطنهم وبلداتهم وقراهم التي غادروها بفعل العدوان والحرب المركبة التي شهدتها سورية خلال أكثر من عشر سنوات.