الملحق الثقافي-سامر الشغري:
التراث الغنائي في منطقتنا شديد الغنى والتنوع، وكثير من أغانيه نسمعها بألحان شتى وكلمات متباينة، وهناك من كان في كل مرة يلبسها ثياباً جديدة ويغير بكلماتها أو لحنها أو توزيعها، ولعل من أشهر هذه الأغاني واجملها فوق النخل.
هذه الأغنية المغرقة في شجنها وأساها ينسبها الكثيرون للتراث، فيغمطون بذلك حق صانعها الأساسي، والذي كان الملهم الأول لكل من أعاد تقديم هذه الأغنية بطريقته الخاصة.
عندما قدم المطرب العراقي الراحل ناظم الغزالي هذه الأغنية للمرة الأولى قبل وفاته بفترة قصيرة سنة 1963، كان قد جاء بها من توشيح ديني بعنوان «فوق العرش» لأحد أعلام الموسيقا والشعر في بلاده واسمه الملا عثمان الموصلي، كما ذكر ذلك الباحث العراقي المتخصص في التراث الدكتور هيثم شعوبي، وكان الموصلي يرددها في جلسات الحضرات الصوفية وينشد كلماتها التي تقول:
«فوق العرش سيدي
فوق العرش فوق
معراج أبو إبراهيم سيدي
فوق العرش فوق
هادي للأكوان.. كشاف البلوى».
لقد أخذ لحن هذه الأغنية بلب الغزالي وأعجب به جداً، ورغب بغنائه ولكن على طريقته هو، فلجأ إلى الشاعر الغنائي جبوري النجار، الذي كتب له نصاً استوحى بعض عباراته من نص الموصلي وفيه يقول: «فوق النخل فوق..فوق النخل فوق..مدري لمع خدك..مدري القمر فوق..والله ما ريداه..باليني بلواه».
ولم يكتفِ الغزالي باستبدال النص، بل غير في آلية اللحن الذي غناه الموصلي والمعتمد على المزاهر كآلات مرافقة للغناء، وطلب من الموسيقي القدير جميل بشير توزيعه بشكل يتواءم مع آلات التخت الشرقي، والذي قام بالمهمة على أكمل وجه محافظاً على مقام اللحن وهو الحويزاوي من فروع الحجاز.
ومن الطريف تلك الحكايات التي أحاطت نشوء الأغنية، بأن شاباً بغدادياً كتبها ولحنها لجارته التي كانت تقيم في غرفة تعلو منزله، وتسببت هذه الحكاية في ذلك اللغط الذي دار حول العبارة الافتتاحية، بين «فوق النخل» أو «فوق إلنا خل»، ولكن أغلب الباحثين يؤكدون أن الغزالي قصد النخلة، كالإماراتي عبد الله المدني والعراقي مازن العليوي، مستدلين على ذلك بأن الغزالي لفظ كلمة النخل بتفخيم اللام وبفتح الخاء، ولو أراد أن يقول «خل» للفظ اللام مرققة ولكسر حرف الخاء.
ولم يمر على رحيل صاحب الأغنية الأول عامان حتى أعاد المطرب الكبير صباح فخري تقديها ضمن حفل جماهيري، ولكنه خلال مقابلة صحفية أجراها معه الأديب الراحل جان ألكسان لصالح مجلة العربي الكويتية، نسب الأغنية للفلكلور ولم يذكر اسم أصحابها الأصليين.
ورغم أن فخري لم يغير في لحن فوق النخل الأساسي، لكنه أضاف إليه الكثير بأدائه الفخم وعرباته الصوتية الخارقة، وبدّل كلمات الكوبليه الأول الذي غناه الغزالي، لتكون بذلك ثاني محاولات تعديل هذه الأغنية حيث يقول فخري:
«بالله يا مجرى المي
سلّم عليهم عليهم
صعبانة الفرقة علي
اشتقنا إليهم إليهم»
ومع الموسيقار السوري الراحل نجيب السراج، سوف تعرف فوق النخل محاولة تعديل أكثر جرأة وتجديداً، فلم يكتفِ باستبدال لحن الأغنية برمته، بل انتقل إلى مقام آخر أقل حزناً وأكثر تطريباً وهو البيات، ثم جعل الشاعر الراحل عمر حلبي يكتب له نصاً جديداً أضاف على مذهبه كلمة «يا سليمى»، ثم كتب كوبليهين جديدين فقال في الأول:
«والله لاغنيلك يا سليمى
عن ألم حبي
بلكي بيرضى قلبك يا سليمى
وبيطاوع قلبي».
وفي عام 1969 عرفت أغنية فوق النخل عملية التجديد الرابعة والأخيرة مع المطرب الكبير موفق بهجت، والذي وجد أن هذه الأغنية تتناسب مع خطه الأساسي القائم على إعادة تقديم التراث الشعبي السوري والعربي بأسلوبه، مع تغيير اللحن والنص أو تطويرهما.
وحين سألت الفنان موفق عن هذه الأغنية أجابني بالقول((شهد عقد الستينيات موجة العودة إلى الفلكلور مع فنانين كبار في مصر وسورية ولبنان، وأردت أن أدلي بدلوي في هذا المضمار لإعطاء لحن ما صبغة أو بناء موسيقي جديدين، واخترت لذلك فوق النخل الذي أدته مجموعة من أعظم الأصوات العراقية)).
وعن إعداد الأغنية قال بهجت ((اتفقت مع الشاعر الراحل عمر حلبي صاحب المساهمة الكبيرة في بناء الأغنية السورية على تقديم نص جديد، وبعد أن قدم لي الأغنية دخلت إليها من باب الحكاية والحدوتة، محافظاً على أصالة اللحن ولكني بنيته من طبقة أعلى انسجاماً مع لوني الخاص في الغناء، واعتمدت الطرافة في المقارنة بين كلمتي فوق وتحت وبأن العاشق سوف يرمي نفسه إن لم تشفق عليه المحبوبة)).
لقد مزج موفق في تلحينه لفوق النخل بين مقامي بيات دوجا وفرحفزا فأعطى للأغنية حيوية واندفاعاً لم تكن موجودة في السابق، ومنح فسحة أكبر في الأداء الصوتي للكورس، ولاسيما في المذهب:
«فوق النخل فوق يا عيني
فوق النخل فوق فوق
مدري القمر حدي تحت
مدري القمر فوق».
بعد هذه المحاولة من الفنان موفق لتجديد فوق النخل، توقفت نهائياً أعمال التطوير في شكل الأغنية ولم يسعَ آخرون للتغيير في لحنها أو كلماتها كما قدمها الغزالي أو فخري، ولكن الشغف فيها لم يتوقف ووصل إلى قلب أوروبا، وقدمتها العديد من الأصوات النسائية أمثال شهد برمدا وفايا يونان وهالة القصير ونانسي نصر الله وبيسان إسماعيل، فيما قدمها آخرون بأشكال جديدة دون المساس بالجوهر من فرقة ألمانية أعادت توزيعها أوركستراليا بمرافقة كورال ضخم، والثنائي الأخوين شحادة بطابع احتفالي، وفرقة أشكون السورية الألمانية التي قدمتها بأسلوب الموسيقا الإلكترونية.
وما تزال رحلة فوق النخل مستمرة ولم تتوقف في حناجر المطربين والمغنين وأفكار المطورين، راسمة إشارات استفهام كثيرة عند الباحثين والمهتمين، حول ما تكتنفه هذه الأغنية تحديداً ليغرم بها هذا العدد من الفنانين في الشرق والغرب، ويعكفوا على إعادة تقديمها مرة تلو المرة، ولكنهم كانوا غالباً ما ينسون أن ينسبوها لمؤلفها ولملحنها الأساسي، فيعيدونها للفلكلور أو لمؤلف مجهول.
العدد 1141 – 18-4-2023