الملحق الثقافي- دلال ابراهيم:
يبدو أن إعلان عام 2023 ( عام بيكاسو ) والاحتفال بالمئوية الأولى لميلاده عبر إقامة العديد من المعارض والفعاليات في مختلف العواصم الأوروبية والأميركية، لن يمر مرور الكرام، بحيث لن يبقى التركيز على عبقريته وأعماله فحسب، بل وستتناول حياته الشخصية، بعدما تلطخت سمعته مع ارتفاع الأصوات المناهضة له رغم عبقريته بسبب كراهيته للمرأة ومعاملته السيئة لزوجاته العديدات. وتلك مسألة أثارتها حركة #metoo النسوية، منذ أعوام الثمانينات. وقد رأت الحركة أن العديد من أعمال الفنان المثيرة للجدل رسمت صورة سلبية لمعبود الفن في القرن العشرين، أعمال تغذت من علاقاته مع النساء في حياته. وتعترف سيسيل دوبري، مديرة متحف بيكاسو- باريس أن الحركة المذكورة قد اساءت لصورة الفنان عبر البودكاست النسوي التي ألفته جولي بوزاك، وفيه خصصت حلقة عن بابلو بيكاسو بعنوان 🙁 فصل الانسان عن الفنان ) وقد تابعه 250 ألف شخص. وهذه المسألة لم يعترض عليها لا المتحف المقام باسمه ولا حفيده اوليفييه، والذي يعترف قائلاً :» دون نسائه، كانت أعماله ستكون منقوصة «، ولكنهم يتمنون أن يتم تناول هذه المسألة بعدالة. وحول هذا البودكاست علقت صوفي شوفو مؤلفة كتاب ( بيكاسو، المينوتور) – المينوتور Minotaure هو في المثولوجيا اليونانية، كائن خرافي جسمه جسم إنسان ورأسه رأس ثور، يتغذى من لحوم البشر- بقولها :» سيطرة العبقرية التي لا تقاوم والمدمرة على أولئك اللواتي أحبهن». وحول كتابها تعترف شوفو أنها وخلال بحثها لسنوات عديدة حول بيكاسو لم تستطع أن تجد مدخلاً إلى أرشيفه العائلي. وفي كتابها تستحضر شوفو صورة رسام -لامع- بقدر ما هو رجل عنيف و غيور و فاسد و مدمر ، و مُغوٍعظيم لا يتردد في احتلال قلوب الشابات وإساءة معاملتهن.
هذا التأمل في بيكاسو والنظرة النسوية أو الأنثوية على عمله هو نقاش حالي بشكل بارز ، يجب عدم تحويله أو تصويره بشكل كاريكاتوري ، حسبما يعلق المدافعون عن الفنان..
وحول هذه المسألة التي طفت حديثاً، أي حول منطقية الفصل بين الإنسان والفنان يجدر بنا إلقاء نظرة على كتاب صوفي شوفو، عن هذا الوحش العبقري الذي اسمه- بابلو بيكاسو- كما أسمته والسؤال كيف نفصل أحدهما عن الآخر، نضع الإنسان الوحش على جانب وعلى الجانب الآخر نضع الفنان اللامع؟ تبدو النقاشات التي لا تنتهي حول الفنانين، وخاصة أولئك الذين يتصرفون تصرفات مريعة، أوأولئك الذين دعموا ايديولوجيات الكراهية، ميؤوس منها . ويبقى بيكاسو أحد أكثر الأمثلة المذهلة في تاريخ الفن. منذ مقدمتها التي كتبتها عن الكتاب، عبرت صوفي شوفو عن اكتشافها لشخصية بيكاسو التي تستوجب الإعجاب وتستوجب الشنق على حدّ سواء..تقول في كتابها: في عام 1966, وكنت حينها في الثالثة عشر من عمري اكتشفت أعمال بيكاسو، وقد أحببته على الفور. ولكن تضيف بدأت أكرهه فيما بعد بسبب السلوك الذي كان يمارسه مع المقربين منه، ولا سيما زوجاته وصديقاته. ومع ذلك، تؤكد الكاتبة، بقي فنه يؤثر فيها:» لن يكون القرن العشرون ومن بعده القرن الواحد والعشرون كما كانا أو كما سيكونان من دون قوة هذا الرجل، ويمكن تلخيص ذلك بجملة واحدة» أنا لن أتخلص من الفنان ولا من الإنسان.»
توازن مثالي بين الإعجاب بالفنان وكراهيتة كإنسان ، بين عالمية الأول وخسة الثاني ، بين هذه القدرة الفريدة التي لا تنضب للإبداع الجمالي الذي ينقله ويغوي العالم، والشهية المذهلة للسيطرة التي يلغي فيها حياة الآخرين ، بين هذه الموجات الحارة وهذا النوع من البرود والقسوة الساخرة التي لا تُرتوي أبداً. لا يعد العمل مهماً هنا ، فاللوحات القليلة التي تمّ الاستشهاد بها تخدم فقط كمعيار في مسار رحلة الذكر ، والأيقونة ، والنجم ، والطفل المتقلّب.
وضمن هذا السياق، فإن قراءة هذه السيرة الذاتية، المكتوبة بشكل جيد، وموثقة أكثر، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنها ليست بتلك البساطة، نظراً لأن وحشية الإنسان لا تزال تنعكس على الأعمال التي نفذها الفنان. إن اللوحات المفككة والمدمرة والمعذبة لصديقته درامار، التي كانت أشهر ملهمة للفنان بيكاسو، هي خير مثال على ذلك. العذاب المتواصل الذي ألحقه بهذه المرأة كان موضوع رسوماته. ومع ذلك، فنجن معجبون بتلك الأعمال، والتي تصور الألم الذي أصاب ( الموديل ) الذي تعامل معه الفنان بقسوة شديدة.
لأسباب وجيهة، ترسم صوفي شوفو صورة للفنان بيكاسو خالية من الرضا عن النفس. والحقيقة، من هنا أثبت بيكاسو الإنسان دفقاً من السخاء، إلا أن المهيمن في شخصيته هو تلك الغطرسة والكبرياء المعظّمة. وكان يحق له, فخلال مسيرة حياته ارتبط بصداقات واسعة مع شخصيات لها اعتبارها، مثل الشاعر ابولينير، ماكس جاكوب، إلوار، ميشيل ليريز وجان كوكتو والعديدين، بينما وفي نفس الوقت كان يبدي جحوداً مروعاً.
وكانت تلك الحال مع ماكس جاكوب، حينما تمّ القاء القبض عليه في عام 1944 واقتيد إلى درانسي حيث توفي هناك. حينها لم يكلف بيكاسو نفسه لمساعدة صديقه الذي أبدى له كلّ الإخلاص، وكان قد أنقذه عندما مرّ بفترة البؤس الحقيقية التي مرّت عليه في عام 1901.
لكن الأكثر فظاعة وغير المقبولة، هي الأفعال التي مارسها مع زوجاته، مع أولئك التي قادهن سوء حظهن للوقوع في براثنه. فقد كان يعاملهن الواحدة تلو الأخرى كفريسة بإمكانه أن يفعل بها ما يشاء. وكان يعرف ماذا يفعل من أجل ارضائهن واغرائهن، ومن ثم تعذيبهن، بغية ابقائهن تحت سيطرته. لأنه وباستثناء فرانسوا جيلو، التي تمكنت من النجاة بجلدها من براثنه، والابتعاد عنه لتعيش حياتها بهدوء، فقد كان يعمل على تقييد الآخريات إليه بطريقة لا انسانية، فقد كان لا يحتمل أن تتخلص منه إحدى زوجاته، ورغم أنه لم يكن يكف عن البحث عن ضحيات أخريات. كان أشبه بالمينوتورالذي يلتهم ضحاياه، كان غول الحكايات. كان بارب بلو ( في اوبرا بارتوك) أو ( قلهعة الدوق ) لماترلنك، الذي كان يسجن النساء الواحدة تلو الأخرى في إحدى غرف قصره. وكان بيكاسو يحتفل بنساءه في لوحاته، حتى عندما يبيدهن في الحياة الواقعية.» اسباني منحرف ولكنه مشهور، والمرأة لديه ليست سوى عبدة في خدمته، ليس لهن الحقّ في الرغبة أو العواطف.
كان لديه الوسواس من المرض والرعب من الموت، شيوعي انتهازي أكثر منه شيوعي عن قناعة، ظالم وقاسٍ تجاه أقاربه وزوجاته وأيضاً تجاه أبنائه، مشبع بنفسه كلياً. هذا هو الوحش الذي كان بيكاسو. وعلى الرغم من ذلك، حتى ولو أنه أسيء فهم أعماله من قبل عامة الناس خلال حياته، وحتى سخر منها ، فكيف لا تأسرنا وكيف لا يمكنها ابهارنا ابداعاته وعبقريته؟ وكتبت صوفي شوفو في خاتمة كتابها:» لقد أدخل اللامحدود في رسوماته» لقد امتلك الموهبة الفريدة في العالم. الإتقان الكامل لأي لغة، سواء أكان في الرسم أو النحت أو في كلّ صنوف الفنون التي تناولها في أعماله، والتي عمل بنفسه على تعديلها كلياً وتجديدها. براعة ومهارة وخيال لا يضاهى في هذا القرن، عرف كيف ينظر إلى الشمس في النور ويديننا في الظل. كانت ظلماته عميقة لدرجة أنه لم يكن ينوي النزول إليها وحده. لذلك لا يزال يورثنا كوابيسه ، مثل تلك الموجودة في الحالة البشرية ، لكنه دفع بها إلى الذروة.
العدد 1141 – 18-4-2023