الثورة – ترجمة ختام أحمد:
يكشف مفهوم السياسة الخارجية الذي أصدرته موسكو مؤخراً عن تحول كبير نحو مواجهة الولايات المتحدة، وإعطاء الأولوية للتحالفات مع الدول غير الغربية، ووضع روسيا كأحد أعمدة العالم متعدد الأقطاب الناشئ.
ووفقاً للسياسة الخارجية الرئيسة الجديدة لروسيا تُعتبر الولايات المتحدة بأنها “الملهم الرئيس والمنظم والمنفذ” للسياسة العدوانية المعادية، والمصدر الرئيس للمخاطر على أمن كل من الاتحاد الروسي والسلام الدولي العالمي.
في 31 آذار 2023، وقع الرئيس فلاديمير بوتين المرسوم الخاص بمفهوم السياسة الخارجية لروسيا، الذي يحدد الرؤية الرسمية للبلاد ومصالحها وأهدافها، ويُعتبر هذا المرسوم أكثر تحديدا لعدائية الغرب، ويحتوي على إشارات تعود إلى حقبة الحرب الباردة، على عكس الإصدارات السابقة المنشورة في 1993 و 2000 و 2008 و2013 و 2016.
في مطلع القرن الحادي والعشرين، بدأ السياسيون والأكاديميون الروس في استخدام مصطلح “العالم الروسي” أو ” روسكي مير ” للإشارة إلى الروابط الثقافية والتاريخية واللغوية مع العالم الناطق بالروسية ولتعزيز الثقافة الروسية والحفاظ على قيمها.
ومع ذلك فإن مفهوم السياسة الخارجية لروسيا لعام 2023 هو أول وثيقة رسمية للبلاد تتضمن مصطلح “العالم الروسي”.
فمنذ بداية الحرب في أوكرانيا ركز المسؤولون الروس وخاصة الرئيس بوتين بشكل متزايد على استدعاء القيم الحضارية والثقافية والأيديولوجية المشتركة وتأطير المعركة على أنها معركة بين الليبرالية والحضارات الأخرى.
النخب الروسية مقتنعة بأن بقاء بلادهم كحضارة فريدة ومستقلة يستلزم تحولاً جيوسياسياً بعيداً عن العالم أحادي القطب الذي يمثله تفوق الولايات المتحدة، ويؤكد المفهوم الجديد على العوامل الثقافية والأيديولوجية، مما يشير إلى أن المواجهة بين روسيا والغرب ستصبح أكثر أيديولوجية، خاصة وأن رفض النيوليبرالية أصبح أساساً للسياسة الخارجية الروسية، ومن المتوقع أن يكون لهذه المواجهة تداعيات عالمية بما في ذلك مناطق مثل غرب آسيا.
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي أكدت مفاهيم السياسة الخارجية الروسية على التعاون مع الغرب ولاسيما الولايات المتحدة فيما يتعلق بالقضايا التي تهم موسكو – مثل توسع الناتو – على النحو المبين في العقيدة العسكرية الروسية لعام 2014.
ومع ذلك فإن المفهوم الجديد للسياسة الخارجية يمثل خروجاً عن هذا النهج ويعيد إلى الوراء عبارات حقبة الحرب الباردة مثل “التعايش السلمي” ، و”التكافؤ الاستراتيجي” ، وعلى الأخص السعي لتحقيق “توازن المصالح” مع الولايات المتحدة على أساس “المسؤولية الخاصة المشتركة عن الاستقرار الاستراتيجي والأمن الدولي”.
يعيد المفهوم أيضاً تقسيم العالم إلى معسكرين: الدول المستعمرة الجديدة وحلفاؤها الذين يسعون إلى بناء نظام عالمي قائم على قواعدهم الخاصة، و الدول المتمردة على النظام العالمي الحالي.
حيث تسعى روسيا إلى وضع نفسها كقائدة بين تلك الدول التي تعارض الهيمنة الأمريكية وتعمل على القضاء على النظام الاستعماري في القرن العشرين ومواجهة الاستعمار الغربي الجديد، على غرار حركة عدم الانحياز للدول التي ظهرت خلال الحرب الباردة ورفضت التحالف مع أي طرف على حساب طرف آخر.
هناك اتجاه متزايد للدول المتأرجحة خاصة في غرب آسيا التي تعيد تقييم علاقاتها مع الدول الكبرى القوية والاستفادة من المنافسة فيما بينها لتحقيق أهدافها الخاصة.
صنفت روسيا الولايات المتحدة على أنها المحرك الرئيس للسياسات العدوانية ضدها، فقد تبنت موسكو خطاباً دبلوماسياً حذراً في مقاربتها للعلاقات مع واشنطن، مع التركيز على تعميق التعاون واستخدام مصطلحات مثل “السياسات الأمريكية غير الودية” أو “التعبير عن القلق”.
ومع ذلك بعد أكثر من عام من بدء الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا، أعلنت موسكو الآن أن الولايات المتحدة هي العدو الأول لها وأكبر تهديد لمصالحها في الداخل والخارج، لذلك أصبح من الأولويات القضاء على بقايا هيمنة الولايات المتحدة والدول الأخرى غير الصديقة في الشؤون العالمية.
وفي سياق مواجهة ما تعتبره هجوماً غربياً، أعلنت روسيا عزمها بناء تحالف غير غربي مع دول جنوب الكرة الأرضية لمواجهة الطموحات الاستعمارية الجديدة وقد يشمل ذلك استخدام جميع الوسائل المتاحة بما في ذلك الوسائل العسكرية ودعم الدول التي تسعى إلى تأمين سيادتها بعيداً عن الهيمنة الأمريكية.
من دواعي قلق واشنطن بشكل خاص إعلان موسكو عن استعدادها لدعم دول أمريكا اللاتينية المهتمة بتأمين السيادة والاستقلال بعيداً عن الولايات المتحدة وحلفائها، بما في ذلك تعزيز وتوسيع التعاون الأمني والعسكري والتقني العسكري.
و قد يُنظر إلى هذا على أنه إعلان عن نية تصعيد الأنشطة في “الفناء الخلفي” للولايات المتحدة إذا توافرت الأسباب المناسبة.
في غرب آسيا وشمال إفريقيا أعربت موسكو عن عزمها العمل على بناء “نظام أمني إقليمي شامل ومستدام يقوم على الجمع بين جميع دول المنطقة”.
يأتي ذلك رداً على جهود الولايات المتحدة لشبكة الأمن الإقليمي في المنطقة الأوسع من خلال تعزيز العلاقات العسكرية والتقنية مع حلفائها الإقليميين.
في العام الماضي في قمة دول مجلس التعاون الخليجي + 3 في جدة بالمملكة العربية السعودية ، أعاد الرئيس الأمريكي جو بايدن التأكيد على هذه الرؤية بالقول:
“التزام الولايات المتحدة بتطوير بنية دفاعية جوية وصاروخية أكثر تكاملاً وشبكات إقليمية ومواجهة انتشار الأنظمة الجوية والصواريخ بدون طيار إلى الجهات الفاعلة غير الحكومية التي تهدد السلام والأمن في المنطقة.
تهدف روسيا إلى منع واشنطن من إنشاء نظام أمني أحادي الجانب في المنطقة يتعارض مع مصالح موسكو ومصالح حلفائها.
علاوة على ذلك يستبدل المفهوم المصطلح القديم “الشرق الأوسط” بـ “العالم الإسلامي” لأول مرة مما يعكس تأكيد موسكو على التعددية الثقافية كحجر زاوية للنظام متعدد الأقطاب.
ويعطي هذا المفهوم الأولوية لتطوير التعاون الكامل والثقة مع إيران، يليها تقديم الدعم الشامل لسورية وتعميق الشراكات متبادلة المنفعة مع تركيا والمملكة العربية السعودية ومصر والدول الأعضاء الأخرى في منظمة التعاون الإسلامي (OIC).
كما أعطت موسكو الأولوية لدعم حلفائها وشركائها في ضمان الدفاع والأمن – بما في ذلك في البلدان الأفريقية – من خلال الإعلان عن استعداد روسيا لدعمهم من الناحية الأمنية والعسكرية والتقنية.
يمثل هذا تحولاً ملحوظاً عن وثيقة المفاهيم الروسية لعام 2016 ، حيث تم ذكر إفريقيا في فقرة واحدة فقط.
وبدلاً من ذلك، يركز مفهوم 2023 على إفريقيا باعتبارها مركزاً متميزاً ومؤثراً للتنمية العالمية، مهددة من قبل الغرب وسياسته الاستعمارية الجديدة.
يشير المفهوم الجديد أيضاً إلى إشارات واضحة إلى القوة الصارمة، مما يشير إلى أن السياسة الخارجية الروسية ستعتمد بشكل كبير على عامل القوة، والذي يُنظر إليه على أنه أمر حتمي في سياق المنافسة العالمية الشرسة.
جادل العالم السياسي الأمريكي الراحل صمويل هنتنغتون في كتابه ” صراع الحضارات ” بأن الاختلافات الثقافية والدينية ستكون المصدر الرئيس للصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة.
والجدير بالذكر أن الفيلسوف الروسي الشهير إيفان إيليين كان يعتقد أن مهمة روسيا هي حماية الحضارة و “الخير” من خلال إنتاج قائد عظيم ينقذ روسيا ويهزم الشر.
ويبدو أن بوتين يرى نفسه كزعيم مقدر له حماية الحضارة الروسية.
يعد مفهوم السياسة الخارجية لروسيا لعام 2023 أول وثيقة رسمية تحدد الاتجاه العام للدولة الصادرة بعد الحرب في أوكرانيا.
إنه يحتوي على إعلان واضح بأن الولايات المتحدة هي العدو وأن روسيا تهدف إلى أن تكون أحد أعمدة النظام العالمي المتطور متعدد الأقطاب.
اليوم، لم تعد هناك كلمات تنفجر: موسكو مستعدة لاستخدام كل الوسائل المتاحة لمواجهة العدو والعمل على تحقيق أهدافها.
المصدر – ذا كريدل