أعادني شهداء السادس من أيار ١٩١٦ ونحن نحتفل بذكرى إعدامهم بعد أكثر من قرن من الزمان لنقاشات وحوارات حملناها خلال العقد الماضي تناولت دور المثقفين والمفكرين والكتاب والصحافيين في مواجهة الاستعمار وقوى البغي والعدوان في العصر الحديث ، وهل كان المثقفون منتمين لشعوبهم ومعبرين عن تطلعاتهم ومستعدين للتضحية بصورة تتكامل مع تضحيات الجنود والأبطال المقاومين.
فما شهدناه من مواقف أصيلة لدى مثقفينا يعد استمراراً لحالة متجذرة عرفها وعاشها مثقفونا منذ بداية تلمسهم لحجم المعاناة والقهر والاستغلال الذي عانى منه العرب خلال القرون الماضية على أيدي المستعمرين ، فكأن الصحفيين والكتاب الطليعة التي تولت تعبئة المقاومين والمجاهدين الذين قادوا الثورات ضد المستعمرين والغزاة ،
وإن كان شهداء السادس من أيار النموذج الذي نستذكره كل عام فقد سبقهم عشرة شهداء من سورية وفلسطين ولبنان تم إعدامهم في بيروت في الحادي والعشرين من آب عام ١٩١٥ ، قبل أقل من سنة على إعدام شهداء أيار في كل من دمشق وبيروت لتكتمل مسيرة التضحية متواصلة جيلاً بعد جيل ، وبذلك يبقى أولئك الشهداء منارات على دروب الحرية والتضحية والفداء باعتبارهم كانوا معالم التثقيف والتوعية والتوجيه لأبناء وطنهم ، فمن بين شهداء السادس من أيار ١٩١٦، صحفيون وأدباء وشعراء وكتاب وروائيون مثلوا الطليعة في أمتهم الرازحة تحت نير العثماني واستبداده القاسي، فقد كان الشيخ عبد الحميد الزهراوي صحفياً يصدر جريدة المنير ويطبعها في حمص ويوزعها في مختلف المناطق داعياً للخلاص من العثماني وتبعاته ومطالباً بالاستقلال الوطني التام.
وكذلك كان رفيقه وقرينه رفيق رزق سلوم صحفياً وشاعراً وروائياً إضافة إلى كونه موسيقياً مبدعاً ، واليوم إذ تحمل أكبر ثانويات مدينة حمص اسمي الزهراوي وسلوم فإنها ترسخ مواقفهما في أذهان الطلبة واليافعين .
ولا يختلف رشدي الشمعة عن زميليه كونه أديباً وكاتباً، فيما كان جرجي الحداد ابن زحلة جارة الوادي شاعراً مجيداً وصحفياً مبدعاً يلتقي بذلك مع سعيد فاضل عقل الصحفي الذي أصدر في المكسيك صحيفة أسماها الوطن ليتشارك مع رفاقه الثوار في دمشق وبيروت بعملية استنهاض أبناء وطنهم وتثبيت مواقفهم بعد فضح إجرام المستعمر البغيض.
ولعلّ الأثر الذي يتركه إعدام بيترو باولي في النفس يؤكد وحدة الأحرار في العالم باعتبار باولي صحفياً عاش وعمل في بيروت وهو من أصل يوناني ، وهنا فإن عبد الوهاب الإنكليزي ليس بريطانياً بل هو سياسي وثائر سوري من قرية المليحة في غوطة دمشق الشرقية .
ولا ننسى الصحفي المرموق والكاتب السياسي عبد الغني العريسي ابن بيروت مدينة الشرائع ومفتاح البحر ومنبع النور التي شهدت إعدام أربعة عشر شهيداً بالتوازي مع دمشق التي شهدت إعدام سبعة شهداء في ذات اللحظة بأمر جمال باشا السفاح قائد الجيش الرابع العثماني والحاكم العسكري لولاية الشام في فترة الحرب العالمية الأولى.
ولئن كان العالم يحتفل في الثالث من أيار من كلّ عام بيوم الصحافة العالمي ، فقد يكون من الأولى أن يكون عيد شهدائنا هو يوم حرية الصحافة ذاته ، لأن الشهداء كلهم كانوا من أصحاب الرأي الحر الذين قدموا حياتهم فداءً وتضحية قرباناً لحرية بلادهم وسيادتها .