الملحق الثقافي- بدر إبراهيم أحمد:
نشر موقع إيقونات سورية قصة حوار أجراه بدر إبراهيم أحمد مع الروائي الراحل حيدر حيدر، وهو يدل على عمق الروائي وإنسانيته، وتواضعه هل كنتُ أتوقع يوماً أن ألتقي هذا الرمز الأدبي الكبير؟! وهل كنتُ أصدق أنني سأحاور مبدع «وليمة لأعشاب البحر»،»شموس الغجر» و»مرايا النار» ؟!
فجأة، كان هذا الرجل في متناول العين والقلب ..
كنت منذ فترة أعمل على تحقيق أو استفتاء ثقافي عن «جدوى الكتابة» في نهاية القرن العشرين وعلى أعتاب الألفية الثالثة، حيث بات المادي والإلكتروني يسيطر على جُلّ حياتنا. وكان أن برز اسم الكاتب أمامي من ضمن الكتاب الذين يمكن أن يُغنوا الاستفتاء أو التحقيق.
قيل لي إنه يسكن في بصيرة، وإن زيارته ممكنة جداً ..
وكانت الزيارة حلماً.. نزلتُ تحت الجسر، جسر حصين البحر، على طريق طرطوس بانياس واتجهت غرباً نحو البحر. مشيت تقريبا 500 متر قبل أن ألتقي رجلاً عابراً:
-أتعرف منزل الكاتب حيدر حيدر؟
قال الرجل: تمشي عشرين متراً ثم تأخذ يمينك، طريق فرعية، تمشي فيها حتى تجد على يسارك بستان ليمون، في نهاية البستان دربٌ صغير،نهاية الدرب تجد بوابة تقودك إلى بيته …
لا أظن أني شكرت الرجل، فلقد كنت أتوق لدخول ملكوت صاحب «وليمة لأعشاب البحر».
طريقٌ ترابي ضيق.. في مواضع كثيرة منه تحيط به أشجار الشربين ونباتات القصب وقناة للمياه ..
وعندما أصبحت في الدار، نبح كلب مربوط ولم يخرج من المنزل أحد.. واصلت التقدم ..الباب مفتوح ومن خلاله رأيت جداراً ممتلئاً بالكتب، فأدركت أنني وصلت الهدف ..ومع أن نباح الكلب تواصل، لم يخرج أحد ..!
عندما تجاوزت العتبة، رأيت طفلاً صغيراً لم أعرف إن كان صبياً أم بنتاً لوسامته وطول شعره . ما إن رآني الطفل حتى اندفع إلى الداخل وسمعته يكلم أحداً ما ..
بعد لحظات، سيخرج رجل لاتخطئه العين: إنه هو .. صاحب حكايا النورس المهاجر ..بادرت بالسلام فردّ مرحباً. ثم عرّفته بنفسي فرحب بي من جديد ودعاني للجلوس ريثما ينهي إفطاره:
– هل تفطر معي ؟
– صحة وعافية ..
سألت الطفل محاولاً معرفة إن كان صبيا أم بنتا: ما اسمك ؟!
– ورد
يااااه .. إذا هذا هو حفيده ورد الذي أهداه روايته الأخيرة «شموس الغجر»: إلى ورد حيدر، دنغو أفندي، طفل الشمس ووريث التنوير والحرية والأمل».
بعد انتهاء وجبة الإفطار، سيسألني إن كنت أحب أن أشاركه شرب الشاي أم يعدّ لي فنجان قهوة ! وافقت على الشاي.
جلس، وكان قد ارتدى ملابسه الرسمية، إذ كان لحظة وصولي يرتدي «الشورت» على جسد نحيل أسمر خطّ البحر عليه بعض الذكريات ..
رحت أستطلع المكان..غرفة تزدحم بالكتب المرتبة ترتيباً لافتاً يفرض الإعجاب والدهشة …لوحات وصور شخصية وغيرها ..هدايا وتذكارات ..
بدأنا الحديث عن روايته الأحدث: «شموس الغجر»، عن الارتداد الذي يحدث فيها، عن تحول البطل من العلمانية إلى الدينية وسقوط القيم والمبادئ والانكفاء إلى ماهو غيبي . ثم تحول الحديث إلى روايته «وليمة لأعشاب البحر» والكتابة بشكل عام …
وحيدر حيدر، أبو مجد، وجدته عكس ما قرأت عنه في حوار مع صحيفة الاتحاد الظبيانية مؤخراً كان قد أجراه الصحفي السوري نبيل الملحم الذي عُرِف ببرنامجه التلفزيوني «شخصية وظلال» ..
فهو غير منعزل في منزله في وطى البحر: «أخرج دائماً إلى المدينة لشراء الحاجات، وإلى المحافظات حيث الأصدقاء، وإلى دمشق حيث ابني الدكتور مجد الذي افتتح دار ورد للنشر ..لكنني منقطع عن النشاط الثقافي من ندوات وأمسيات..هنا بيتي واستراحتي ..هنا كتبي ودفاتري ..أقرأ..أكتب ..أخرج إلى الصيد.. يأتي الأصدقاء فنجلس ونتحدث ونشرب ..يمكن أن نتحدث في كل شئ سوى الكتابة أو الأدب ..»
سألته: نبيل الملحم قال في مقدمة الحوار معك إنك شبه منعزل لا تقرأ سوى الروايات الأجنبية!
ضحك: «نبيل لم يكن مصيباً في كل ماساقه عني .. انظر ..هذه آخر إصدارات المجلات والكتب التي تُنشر ..قد أكون بعيداً نوعاً ما عن الصحافة اليومية.. لكن ابني مجد والأصدقاء يزودونني بكل جديد، كما يرسلون لي الصحف والمجلات التي تتناول كتبي أو تتحدث عنها ..عدم متابعة الصحف يعود لضيق الوقت وليس غير ذلك ..»
وقتٌ ثمين كان يمضي .. عالم من السحر والغنى ماكنت أودّ الخروج منه .. وكاتب يكبر في عينك بعد أن تعرفت عليه وعلى حياته الخاصة وطريقة عيشه البسيطة.
أحيانا، كان يتخلل حديثنا، حديث آخر مع حفيده ورد الذي يطلب شيئاً ما، فينهض الجد الستيني ليلبي طلبه أو ينهره طالباً منه الصمت»نحن نتحدث» أو قد يناوله، عن أحد الرفوف، غليوناً أو مزماراً أو خنجراً يقول عنها إنها هدايا من الأصدقاء. وعندما فاتحته بموضوع الاستفتاء الأدبي، نهض «سأعدّ القهوة» . أثناء ذلك، تشاغلت في معاينة رفوف الكتب المترعة بالقصة والشعر والرواية والتراث .. حول تلك الرفوف صورة له، رسم، أو صور لكتاب من قبيل: جبران، جان جينيه، لينين .. وهناك صور لحيوانات وغيرها ..أجد أيضاً مجلة العربي الكويتية في عدد حديث ..
بعد مناقشة الاستفتاء الذي اكتفيت بتدوين رؤوس أقلام فقط على أن أعيده من الذاكرة فيما بعد، عدت إلى البداية وقلت له: لم أتوقع أن أحداً هنا سيعرفك لو سألت عنك، وأردفت: كما لم أتوقع أن ألتقيك بهاته السهولة!! أجاب وابتسامة رائعة ترتسم على وجهه:
– الكل يعرفني هنا بـ «الكاتب» ..وكثيرون يعرفونني جيداً..فلان ابن فلان .. لست في برج عاجي، وكل من يدخل بيتي يخرج منه صديقاً، أنا في الكتابة كاتب وأنت قارئ.. هنا، خارج الورق، نحن لا نختلف، إنسان مقابل إنسان ..
وتترى الأسئلة، والكلام يدفعه الكلام، وإذ تحين المغادرة، تنتابني الحسرة لأنني سأغادر هذا الحلم الذي غدا واقعاً..
عزائي، حِسنُ الضيافة وحصولي على رقم تلفونه و» أهلاً وسهلاً بك ..تعال متى شئت»..
جمعنا لقاءٌ ثانٍ بعد أسبوع، لكن الهجمة الظلامية عليه نفس الصيف من قبل جماعة إخوان مصر بخصوص الوليمة جعل عالمه بعيد المنال…
العدد 1143 – 9-5-2023