في النتاج القصصي لحيدر حيدر

الملحق الثقافي- غسان كامل ونوس:
ليس التخويض في عوالم إبداع حيدر حيدر الأدبي بشكل عام، والقصصي منه خصوصاً، أمراً يسيراً، وليس الهروب من إغواء هذا التخويض وتعرّفه عن تقرّب وتمثّله أكثر يسراً؛ فحيدر حيدر ليس أديباً عادياً، أو كاتباً راهناً، ولا مبدعاً عابراً؛ إنه راسخ رسوخ صراع الكائن المعذب من أجل حياة أقل مرارة، وباق ما بقي النبض يضخّ السائل الأنقى، كي يخلّص الضفاف والقيعان من أدران الركود، ومخلفات الجريان..
وعلى الرغم من كثافة الغصات، وتكسُّر النصال على النصال، فإن هذا الكائن الثريّ العصيّ/حيدر يوالي انتثاره مضيئاً أركاناً موصدة، ومكتشفاً كنوزاً مرصودة لمن يغامر أكثر، يفكّر ويحلم ويرهص، ومعلناً عن حزم خضراء أخرى موقَدةٍ باحتراق لم يعد مكتوماً..!
ولعل هذا المورد الذي لا يفتقد الزيت، ولا يتردد في الإشعاع، مكافأةٌ لنا نحن معاصريه؛ فهل نستوعب ذلك ونقدره، هل نستحق؟!
لكأن ذاك الكبد الذي يولم منه لأبناء جلدته، ليتنبّهوا، ويستفيقوا، وقد طمى الخطب وغاصت الركب، لا ينضب مداده، ولا يهِن، سرٌٌّ آخر من أسرار هذا المبدع الذي أشرع رؤاه وأحلامه ومعارفه، ومضى لتحقيقها في الشعاب الوعرة، والتضاريس الجاهلية!
خطا، وأبحر، أسرى، وبكّر.. ولم يكتفِ بالكَلِمِ والقلم، وما تخفّى وراء شعار، أو تخوّف من البوح، أو راوغ بالتسويف، أو تفنن في التسويغ؛ فقد سبق الكلامَ الإقدامُ، وكان الطّلقُ على وقع الإطلاق وأصداء الفعل، فجاء الخَلقُ حسناً، والجنى وفيراً، والخصب في ازدياد..
كتب حيدر عن ابن قريته ومنطقته وبلده، وكتب عن أبناء العروبة المقاومين لكل أصناف الإذلال ومشاهد الخيبة والخذلان، ومظاهر الخيانة في الحرب الأهلية اللبنانية، والحروب الأخرى المهزومة في مختلف الجبهات داخلاً وخارجاً، ماضياً وحاضراً، وكتب للإنسان في أي مكان من هذا العالم القلق؛ ولم ييئس من الكتابة، ولا من الفوز القادم، رغم المرارة التي جبلت قوله ذات زمن بعيد:
«آه آه متى تستيقظ هذه النائمة الجميلة؟!» (الفيضان ص 102)
في قراءة إبداع حيدر تُفتقَد الجهات، وتدور إبرة البوصلة بلا توقف؛ لأن في كل سمت ما يغني، وفي كل امتداد ما يسمن، وليس من الممكن الإمساك الواثق بالهيكل المتخلّق، وليس من محاولة مجانية، ولا من ملمح مزيف؛ وتحس، وأنت في محرابه، كأنما لدى حيدر جبلّة خلق معرفية، يقبض منها ما يَشاء ليشكل ما يُشاء: علوم، وعناصر، وخبرات، وتجارب، وحكايا.. تتجمع في مجمرة تقلّب الطينَ فيها أدوات سحرية حتى ينضج؛ في كل قبضة شيء من الحياة يلخصها، وقدر من التفاصيل يعرّفها، وخيوط من دخان تشير إلى أن هناك حريقاً لا ينطفئ؛ إنها متعضيات إبداعية في طور مختلف، يذكّر بالبدايات الكونية؛ حيث الغرين الدّبِق والبرق والمطر، ويعرض العصر الحاضر الذي يتخلف؛ حيث: «.. في هذا الوقت كانت المدينة تشهد عبر طقوس احتفالاتها أفواجاً من المهرجين والنواحين والخطباء والقتلة والطغاة والخونة والحمقى والقاصرين والكذبة.» (الوعول: قصة حالة حصار- ص 44)، وينبئ بالمصير الذي ليس التدمير الذاتي سوى بعض تجلياته؛ كائنات تستنبط أشكال تمظهرها وتهيؤاتها من كياناتها وفق محمولاتها وظروفها ونفثاتها، وتختار أساليب تنفسها من نَفَسِها، وعليك التكيّف معها، لاستكناه بعض كنوزها، رغم أنها ليست غريبة، تحس ذلك، وليست طارئة ولا منبتّة، متأكد من ذلك، لأن لك فيها إيقاعَ نبضٍ وصدى وجع وطيفَ حلم، وليست بلا هوية أو انتماء. لعلك مشارك فيها دون أن تدري؛ ذلك هو أحد أسرار هذا الإبداع الذي يعزّ على من ليس لديه موهبة حيدر، وقدراته، وصبره، وتمرده، وحريته، وصمته، ومغامراته.. لا همّ إن قَلّت الصفحات أو تكاثرت؛ ولا قلق من تفرع المقاطع واختلاف حجومها؛ ولا بأس في توزع العنوانات كلمات أو عبارات، أو غيابها؛ ولا مشكلة في استقطاب الشوارد، تنافرت أو تجاذبت، ولا في عرض الانفعالات، تشوهت أو استقامت، ولا في بثّ الأحاسيس رضية أو لائمة أو متهِّمة؛ ولا بدّ من موقف إنساني وطني قومي مقاوم، ولا مناص من تحمل التبعات والعواقب؛ وما أكثر من يقيمون الحدّ، أو يحاولون، يبحثون عن الأسباب، وما أقل ما يخيبون! لكن من يجني الثمار نحن قرّاءه، والأجيال القادمة، وما يشفع له الإبداع وسموّ الغاية والتوق إلى الدوام الكريم.
وما يلفتك في نتاج حيدر/ معظمه من أجل الدقة/ أنه يستطرد ويعطف ويقرر.. حتى لتظن أنه بات مكشوفاً ومألوفاً، لكنه سرعان ما يتكاثف ويتكوّر ويتغلّق، حتى لتظن أن أمامك مغاور إسطورية تحتاج إلى شيفرات لولوجها، لكن كلمات السرّ مبثوثة فيها، وعلى صيادها أن يكون في مستوى مقامها.
لا يحس القارئ الجدي لنصوص حيدر القصصية بالحرج أو التردد في القول: إن هذه النصوص تتأبّى على التصنيف أو التجنيس، ويمكن إطلاق توصيف /النثر الإيقاعي/ على معظمها، ولا يقتصر هذا التوصيف على السرد وحده؛ بل يشمل الوصف والحوار.. أيضاً؛ إذ تتداخل عناصر الكتابة وتتشابك، وتتناثر انزياحات واستنتاجات واستئنافات وتحورات وتساؤلات.. والحال هذه تضع أمر التوصيفات النقدية على المحك؛ بل في موقف صعب.
«كانت امرأة مصاغة من صخور البازلت المحروقة بالشموس الاستوائية، لكن حضورها كان أرقّ من العشب في أوقات الصيف السعيدة، لا الرجل كان مبالياً متى تأتي إليه، ولا هي تبالي متى تغادر. بينهما بدت الحالة كأنها استجابة للصرخة التي يطلقها دم الجسد وهو يتفجر». (غسق الآلهة: قصة غسق الآلهة- ص 52)
في هذا المقطع أيضاً تناص إيقاعي مع القرآن الكيم».. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار..»
وإذا كانت بحور الشعر قد استنبطت مما كان قد روي من قصائد، وتردد من أبيات ومقطوعات، فلماذا لا يعكف النقاد على استنهاض توصيفات جديدة من هذا النتاج الثر والدفق النشوان والإشعاع المثير؟! هل حدث ذلك؟! ومن دون انتظار الجواب، أقول: إن هذا النتاج المميز إبداع خالد، لأنه ليس مرتهناً لحال أو موقف أو ظرف أو بلد أو جيل..
القص عند حيدر إيغال في مكان ما/ عالم ما/ غابة ما/ بحر ما/ جسد ما.. ثم التحرك داخله باتجاهات مختلفة لرصد المشاهد، ومراقبة العناصر، ومحاورة الأشياء والكائنات واستنطاقها لتحليل ما يريد، أو الإدلاء بما يفيد، من دون تحديد الغاية التي يمكن التكهن بها وتفهمها بالتبصّر والتفكّر والتفهّم والتمثّل؛ وحين تكون اللوحة قد امتلأت، أو قاربت على الإشباع من داخلها أو عبر الأطراف أو الأعماق أو المسالك المبتدعة، يكون الكاتب قد أدخلنا في المعمعة، أو استدرجنا إلى الحالة بلا استئذان، لندين أو لنتوفّز، أو نغيّر، أو نسكن ونتخامد، حسب ما تكون قدراتنا، ووفق منسوب الكرامة ودرجة الرؤيا في آفاقنا التي تبدو مغبرّة!
«سدى كان العالم الآن، خرب، يتراءى مجرات تتساقط شهبها في الصحارى. من هناك كانت تنتشر رائحة الموت والدم؛ حيث سيتحول جنون العظمة إلى نيران من السطوة البربرية، تجتاح فيما بعد كإعصار أعمى سهب الروح في هزيع الزمن الأخير». (غسق الآلهة: قصة طائر الموت- ص 46).
ويمكن التوصل إلى أن هناك معادلة يصح إيرادها، تتعلق بإبداع حيدر حيدر، تترامح بين إغواء الكتابة وإغوات أخرى:
الكتابة/الأنوثة/الخلق أو إعادة الخَلق/المواجهة/الصيد/المصير.
إن نصوص حيدر كالشلال المندفع من علٍ، تتوزع أمواهه عبر العتبات: الحادة والعريضة والمتطاولة والمخفية والغائرة والنافرة.. والتي تتدفق عبرها في تيارات أو خيوط أو قطرات.. ويحتم هذا على من يريد التشبع منها أن يقاربها غير هيّاب من البلل الموقظ والرطوبة المنعشة!
«يبدو أن ذاكرتي لا تعمل كما ينبغي. صوت موسيقا بعيدة تشبه الأنين تصدر من الطرف الآخر للذاكرة: شيء ما يموت في مكان بعيد» (الفيضان- قصة الزوغان ص27).
ويمكن أن نضيف إلى ما ذكرنا بعض الخصائص التي تميز إبداع حيدر، غير مفرقين بين المضمون والشكل، لأن نصوص كاتبنا المميز أمثلة عن تواشج الموضوع بتشكله، ليقدم إبداعاً حقيقياً.
التفلّت من التحديد والتلخيص؛ فهي كتابات تُتَمثّل، أو تؤخذ بمجمل الحواس، لا تعوّض فيها صفحة عن صفحة، ولا مقطع يحلّ مكان آخر، ولا نص يبدو نافلاً؛ الجزء لا يعوض عن الكل، والكل لا يقتصر على كونه مجموع الأجزاء، على الرغم من أن القصص/النصوص تبدو متشابهة، وذات موضوعات متلامحة؛ لكنها تتقارب وتفترق، تقترب وتبتعد، يتعذر القبض عليها، ولا تكاد تغيب عن المدركات؛ لأن في كل منها أصداء متمايزة الإيقاع، تزيد اللوحة غنى والمشهد ثراء وجِدّة وتفرداً، والوليمة طزاجة ونكهة ومذاقاً..
وتبدو النصوص كأسراب الطيور المهاجرة، أو كأسراب الأسماك، يختلف تشكّل طيرانها أو إبحارها كثافة وعمقاً وهيكلاً حسب التضاريس والأنواء، مع أن عناصرها معروفة، وأفرادها متشابهون.
الجرأة والتحرر من إشكاليات القداسة والحياء والترفع المفتعل؛ فتطرح القضايا كما تتراءى على شاشة الخيال الوثاب أو الحلم المغامر، وكما تتخاطر الرؤى في آفاقه المتشاسعة، وكما تشير المنبهات الحسية الواعية منها وغير الواعية. وهذا ليس غريباً؛ أليست مشروعيتها تنبثق من أنها نتاج حياة حقيقية بكل أهوالها ومسراتها؟
أليست انفعالات كائن مقدام، لم يتردد، ولم ينسحب إلا ليعيد شحن العناصر وتحفيز الإرادات، وقذف السائل الحيوي في الأعضاء التي كادت تترمد؟!
إن مشروعيتها تتأكد من أنها ليست تلقيناً ولا تقليداً ولا تقرباً أو زلفى، وليست تهرباً أو شماتة أو سلبية.. ليست تكلفاً ولا مرافعة مأجورة؛ إنها رؤى، نهدات، لوحات، إشراقات، أمنيات، تكهنات.. منطلقة من الحياة، مبثوثة فيها، منذورة لنبضها الذي يجب أن لا ينوس أو يتلاشى.
* تماهي العلوم في الإبداع؛ وهي ميزة يكاد ينفرد بها أديبنا المبدع؛ فحيدر واحد من أدباء عديدين لديهم تحصيل علمي أو اهتمام بالعلوم المتعددة، اشتهروا في سورية والبلدان العربية الأخرى والعالم:

البيئة حاضنة الأفكار ومؤثرة في تفاعلها

عبد السلام العجيلي، عبد الرحمن منيف، تشيخوف.. أمثلة. وقد استفاد أكثرهم من ذلك بأشكال وأساليب مختلفة: سِيَراً وأحداثاً وتجارب وموضوعات ومفردات..


لكن الأمر لدى حيدر مختلف ومتمايز؛ فقد أدخل الأدب في مختبر العلم، أو نثر العلم في بيدر الأدب، فخرجت طينة تكتنز بجواهر المادتين؛ لا العلم يتفاخر بتخصصه ويتجرد، فيسرق الأضواء ويعكسها مشوشاً الرؤية، فتغيب الخصائص الأخرى، أو تتشوه، ويغدو النص مقالاً بلا روح؛ ولا يتدلع الأدب ويغتر فينفرش بلا سبب أو معنى، وتسود اللغة المقعرة أو السطحية المنفوخة.
فنص حيدر الذي يمتلك ناصية الأُسَّين مشحون بمعارف العلم ومبادئه وتحليلاته وتساؤلاته واحتمالاته، ومشبع بالمعاني والخيالات والإشراقات عبر صياغة إبداعية متمكنة ومبتكرة؛ فيبدو النص حيوياً ناهضاً مكتنزاً واثقاً فياضاً، ذا كيان متماسك قابل للعيش في أزمنة مختلفة وبيئات متعددة.
ومن الكلمات الأثيرة للكاتب في هذا المجال: المحلول، المختبر، العضوية، المتعضية، التكوين، الغرين، البدء، الخلق الأول، المصل، الطيف، الطاقة..
التداخل بين المعيشي والممكن والأسطوري والمتخيل؛ ويدل هذا على مقدرة الكاتب في صهر المواد المتوافرة من الحياة وما خبره منها، مع تلك التي يبتدعها خياله، ويتصورها، ويدخلها في مختبره الإبداعي، ليخرج منها نص عميق مختلف ثرّ إشكالي.
الاحتفاء بالطبيعة؛ فصولاً وتضاريس وبيئة وظروفاً.. براً وبحراً وكائنات..
ولا يقتصر الأمر على حضور البيئة مكاناً للأحداث، وميداناً للحركة والنظر وممارسة الطقوس الحياتية في الظروف المختلفة؛ بل غدت حاضنة للأفكار، مؤثرة في تفاعلها؛ سواء أكان ذلك في الماضي، أم الحاضر، والمستقبل أيضاً؛ فالبحر للصيد والتأمّل والتذكّر والتساؤل، والصحراء والسهوب للتشرد والتأسي والبحث عن الألفة، والجبال والغابات للتخفي وإعادة النظر والتحول والانسحاب أو الكّر من جديد.
القرية للعادات والتقاليد والوقت الممطوط، والمدينة للحروب والمواجهات والحوارات والحب والحركة والانفعالات الحدية. ولكل من هذه المواضع عناصرها وثقافتها وكائناتها وظروفها، تلك التي لا يبخل حيدر بإحضارها وتحميلها قدراً من المسؤولية في العمل الأدبي، مستفيداً من خبرته الشخصية، وثقافته، وقدرته على إضفاء الحيوية على الأشياء التي لا تخذله.
الاحتفاء بالأنوثة؛ فالأنثى هي الشريكة الكاملة للكائن القلق في مختلف حالاته وظروفه وأحلامه وأوهامه. قد تحاول ترشيد هوسه وضبط هذياناته، وقد لا تستطيع الوقوف في وجه مغامراته طويلاً، وقد تتجاوزه أحياناً، فلا تلبث أن تدعوه إلى مغامرات أكثر اندفاعة وخطورة وغموضاً.
والأنوثة في كتابات حيدر الوجه الآخر للذكورة، وقد تتبادلان المواقع؛ فيكملان تشكيل الكائن الذي انفصم منذ زمن عتيق؛ هل هي دورة الحياة تعود من جديد؟! ليس الأمر بعيد التكهن؛ ففي كتابات حيدر ما يشير إلى ذلك، في أكثر من موقع، وأكثر من حالة.
وتتعدد انتماءات الأنثى: من الغجرية البدئية إلى القروية إلى المدينية إلى الإلهة.. وهي بنت البلد، وآسيوية وأفريقية وأوروبية، ومختلطة الأنساب القارية.
إنها معه في المقاومة، وفي الحيادية، وفي الخيبات. في المدينة المنكوبة بالدمار الأهلي والأرصفة الوعرة، ومعه في القرية الموبوءة بالعادات والخرافات والأوهام القديمة والمتجددة؛ ومعه على الشاطئ الشارد تأملاً وطقوس صيد، وفي الكهف المظلم العطن المهجور، والغابة المتكاثفة، والسهوب المتمددة.. معه في كل نزواته وهيجاناته، في الليل والنهار، في الحرب والسلم، في الحب والكره والانتقام..
إنها المعادل الحي للحياة/الموات، وبها ومعها يظل للآتي احتمال تحمّلٍ وأملٌ وانتظار.
الانشغال الكوني؛ ويظهر ذلك من خلال التصريح حيناً والتلميح أحياناً إلى البدء وتشكل الخلق والغرين الدبق وشقوق الأرض والرعد والمطر، مع التذكير دوماً بإعادة التخلق أو التشكل إمكانيةً وضرورة، لدى المنعطفات المصيرية، كالحروب المدمرة داخلياً وخارجياً، وطغيان التسلط والفجور والفساد والقتل المجاني.
« وتتابع كالي: تحت الشجرة الوارفة جلست مايا الملكة القرفصاء بعد أن حجبها الخدم عن الأنظار بستار خاص، .. وما كادت تنهض حتى كان تحتها طفل تلقته أيدي أربعة من الملائكة في شبكة نسجت خيوطها من الذهب ووقف المولود فجأة وتقدم سبع خطوات، ثم صاح بصوت عذب: أنا سيد هذا العالم. وهذه الحياة آخر حياة لي.
وفي اللحظة نفسها ظهرت اثنتان وثلاثون علامة في السماء والأرض، فحدث زلزال شديد، وانتشر النور في كل مكان، وهطل مطر خفيف على غير ميعاد، فتفتحت براعم الزهور وأكمام الثمر، وانتشرت الروائح الزكية فعمت الأرجاء كلها فاستعاد الأعمى البصر، واسترد الأصم السمع، وعاد الأبكم ينطق ويغني» (غسق الآلهة- قصة غسق الآلهة ص 93)
الملامح الأسطورية المتعلقة بإمكانيات خارقة لبعض الكائنات، وتحولات ممكنة في ظروف مختلفة، نفسية بالدرجة الأولى، وخلقية أيضاً، مع أمنيات وأحلام تتجاوز الحدود القريبة للكائن وشروط حياته الواقعية إلى أبعد من حياة آنية ومصير منتظر وشروط متفهَّمة، إلى هلوسات واستلهامات وتهويمات وهذيانات وحكايا وتهيؤات..
(التحول إلى صرصار- الوعول- قصة من هنا تعبر الحرب ص59)
«.. ثم روى كيف اشتاق ذات مساء إلى امرأة خطفها من مضارب البدو، نام معها فولدت له بنات وبنين تزوجوا وعمروا المكان. ومع الزمن ازدادت السلالة. كانت سلالة غريبة لا ديانة لها، ولا آلهة غير الريح والشمس والمطر والرعد، علمتها تحولات الطبيعة أشياء خارجة عن طقوس البشر المحيطين بها، من الريح أخذت الرسوخ وبناء منازل في الصخر، ومن الشمس تعلمت غرس الأشجار والكشف عن الينابيع، وعلمها المطر كيف تحرث الأرض وتزرعها، وأعطاها الرعد قوة ضاربة تواجه بها الغضب والفوضى والغارات المفاجئة» (الفيضان- قصة الفيضان ص 130)
الاستفادة من التراث العربي والعالمي عبر استحضار شخصيات تاريخية بأسمائها وخصائصها الحقيقية، أو الملمح إليها، (أبو ذر الغفاري، الجعد بن درهم، غيلان الدمشقي.. مجموعة الوعول- قصة الميراث ص25، عقبة بن نافع في قصة حالة حصار ص44 ) وحكايات ومقاطع من سير وكتب مشار إليها، أو مبتكرة متضمنة معاني وأفكاراً ذات أصول تراثية». (المسيح يتبرأ- الوعول- قصة: من هنا تعبر الحرب ص59).
الجنس في مواجهة الدمار؛ يتكرر فعل الجنس أو تذكُّرُه أو تخيُّلُه في أشد الأوقات حصاراً وقلقاً وخطراً؛ « تقول إحدى النسوة: هل تساءل أحدكم لماذا يتزوج الناس كثيراً في الحرب؟
– ليتداركوا الموت بالشهوة. يقول صديق المرأة.
الرجل الآخر يتحدث عن أمور غريبة كامنة في أعماق هؤلاء الناس الرافضين للحرب عن هروب الجسد من دفقة الألم نحو أوج المسرة، وعن احتفاء العضوية والتألق الروحي لمواجهة هذه الظلمة بنار الجنس.» (غسق الآلهة- قصة غبار الطلع ص17).
قسوة وعنف وشناعة تذكّر بأفلام الرعب، عبارات وصوراً وكلمات. والكاتب لا يتردد في الحديث عن القتلة والطغاة والبرابرة والمتوحشين.. وفظائعهم في مسيرة الحياة المعذبة، سواء أكان ذلك منذ زمن طويل، أم قصير، وفي العصر الراهن أيضاً.
«ورأى الجمهور بيوتاً فيها ناس تتحرك شفاههم بكلمات مبهمة، ثم رأى هؤلاء الناس يتوقفون عن الكلام بغتة ثم يتحشرجون ثم تسقط رؤوسهم فوق صدورهم ويصمتون إلى الأبد. وعرض الغرباء آلات خاصة وضعت خارج البيوت والغرف. كانت هناك أنابيب تمتد إلى داخل البيوت من الجدران أو السقوف وظيفتها امتصاص الأوكسجين من الداخل. كان الذين في الداخل يموتون اختناقاً بعد أن يتلوث الهواء بغاز الفحم الخالي من الأوكسجين.» ( الفيضان- قصة البرابرة ص160).
«وما يزال جسدي مطوحاً تحت مجرات من المصل والوهج والتعرق والبياض والغبار» ( الوعول ـ قصة الطيور الغريبة القادمة مع الفجر ص14). «وأرى في المنام أنني أذبحك..» (الوعول- قصة الوعول ص111)
 اللغة؛ أقنوم الأقانيم في إبداعات حيدر حيدر، وهي المرج السخي بنباتاته وأندائه وإشعاعاته وأفيائه وكائناته التي لا تسكن ولا تتعب، كعاملات النحل، باحثة عن المفردات والاشتقاقات والصياغات التي تقدم المعنى المرجو برضى وأريحية وزهوّ وجدية وغيرية وانفعال؛ إنها البساط الطائر بالمشروع الإبداعي بكل انتصاراته وانكساراته، النسيج المتشبع بالأفكار والمعارف الحيدرية والمترع بالأحلام الإنسانية، والموشى بالأصداء التي تدوّم وتطوف تاركة المتلقي في حال من التأثر والمتعة والخيبة والأمل والإقدام والإحجام، لا يخرج منها بيسر، ومن قال إنه يود الخروج، أو يستطيع؟!
« الأنثى التي اقتحمت فجر الرجل الوحيد في هذا الشتاء البارد لاح وجهها الباسم بلون الزهر المريمي، المنبثق من فجوات حجارة التلال وأعشابها. كما عاصفة هوجاء صخبت، مالئة فضاء البيت باهتزازات سريالية خلخلت ذرات الهواء. الرجل المباغت، والمستكين قرب أبواب البحر اضطربت عزلته فتشرد الهدوء.» (إغواء- قصة إغواء ص 43).
وتتنوع أساليب القص بين السرد والوصف والحوار، مع التداخل والتواشج، وتتنوع الصيغ والجمل المشحونة بطاقة تخييل عالية، أو باستخدام عادي، وتدخل الحكاية كما يتدخل التناص إيقاعاً أو فكراً أو نصاً، فتتنوع النبرة، وتغتني اللوحة، ويمور النص بالحركة والحيوية والتشظي والانفلات في الأحياز والفضاءات والأمداء غير المحدودة..
ويمكن للمتابع أن يجد لدى حيدر اعتماداً على المعطوفات ليوسع أفق القارئ ويبعد المرامي: « كان المقهورون والمذلون والصامتون والشهداء والمسروقون والسجناء ينشدون أغنية عن الطيور والزنابق والأمطار والرعود والغابات والبحور الخضر.» (الوعول- قصة الطيور الغريبة القادمة مع الفجر ص 18). .
وعلى الرغم من أن لديه قاموساً لغوياً زاخراً ومنوعاً من المفردات، فإن بعض الكلمات تبدو أثيرة عنده.
كما يعوّل الكاتب على تكرار الأفكار والعناصر والحالات في أكثر من نص تأكيداً لانشغاله الحميم والقلق، وبرهاناً آخر على أن لديه رسالة/ غاية/ قضية ليست هامشية ولا عابرة؛ بل هي متجذرة في التاريخ الإنساني الذي ينتمي حيدر حيدر إليه بشغف وفاعلية، ومرصودة للزمن القادم، الذي يأمل الكاتب ويرهص ربما بأن فيه الخير والعدل والإنسانية، وهو ما يسعى إليه بكل توقه واحتراقه
وبعد؛ حين تحاول الكتابة عن كتابات حيدر حيدر يفترض أن ترتقي إلى مستوى إبداعه، أو تقاربه، وليس هذا يسيراً؛ إنها محاولة تطمح إلى ذلك، ولا تدّعيه؛ ويكفينا أجراً شرف المحاولة للاقتراب من لآلئ هذا المبدع المميز العزيز الذي يستحق كل احترام وتقدير وتكريم.
    

العدد 1143 –  9-5-2023

آخر الأخبار
وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص