أديب مخزوم:
لوحات ورسومات الفنان السوريالي مطيع علي في المركز الوطني للفنون البصرية بدمشق، غنية ومكتنزة بتشابك الصور الحلمية (المعبرة عن تداخل الأزمنة والأمكنة في العالم الداخلي- الباطني أو في عالم اللاشعور السوريالي)، والتي تكشف بطريقة غير مباشرة عن إيحاءات الانطباع بالعزلة والفراغ وإثارة الخوف والقلق في عالم غريب وغامض أشبه بعوالم تداعيات كوابيس الأحلام في لحظات النوم أو في أحلام اليقظة.
ولوحاته تشكل مدخلاً لاستشفاف جوهر الرسم السوريالي الدقيق، الأكثر غموضاً وغرابة وخيال، فكل تكوين يعتمده يتوثب لكشف مالا يمكن أن يبلغه منطلق، والأشكال الفانتازية والغرائبية والخيالية التي يصوغها هي بالتالي عملية استرجاع لأحلام غير مرئية مكشوفة على تداعيات معطيات اللاشعور الذي يسكن الداخل، وهو ما يسمى بالأحلام الهاذية التي صاغت في عشرينات القرن الماضي المناخ السوريالي، في إعادة توليف إشارات الواقع بطريقة تدهش وتحير، والتوغل في رؤية التفاصيل الدقيقة وتشابك الصور الحلمية حتى الهذيان (بالأخص تجربة سلفادور دالي التي تميزت بتوليف الأشكال الغرائبية ضمن منظر أو مشهد طبيعي في أغلب الأحيان) للكشف عما يجري وراء تداعيات الأحلام أو اللاشعور من دون أي عائق، وبلا رابط منطقي بين الوعي واللاوعي.
ومطيع علي- شأنه شأن مجمل الفنانين السورياليين- يحاول في تعلقه النهائي بمساحات هذيان تداعيات الحلم، الاسترسال في توليف كوابيس الواقع، باحثاً عن عنف الرؤية التي تبرز كرواية مجنونة، لا معقولة تحير وتدهش بمشاهدها اللامعقولة المفتوحة على عالم غريب يعكس رؤاه وتداعيات أحلامه الفانتازية وسخريته من واقع متأزم ومتناقض ومتصادم.
ولم تكن لوحاته مجرد رؤى خارقة تعبر عن تداعيات معطيات اللامعقول السوريالي فحسب، بل شكلت ابتكارات فنية جديدة تكاد تشبه في فصول تحولاتها حكايات الأحداث الجسيمة المتتالية والغريبة التي نعيش فصولها، من دون أن ندرك تحليل ألغازها، تماماً كلوحاته التي تأخذ تفسيرات وإيحاءات ودلالات كثيرة غير متناهية، وفي لوحات مطيع علي ملامح كثيرة من هذه الإشارات التي تبحث عن دلالات تعبيرية مأساوية تتوالد في سياق تجسيد الأشكال الإنسانية وخاصة الجسد الأنثوي والطيور والحشرات ورموز الطبيعة والأشكال الصامتة وغيرها.. امتداداً لمواقفه المستمدة والمتفاعلة مع مؤثرات الواقع الذي طالما شحن به لوحاته، في محاولة لإبراز علاقة الإنسان بالواقع والموت بالولادة الجديدة، وهو على الصعيد التقني يصل إلى الوحدة النسيجية في التعبير عن تداعيات الحلم السوريالي، باستخدام تقنيات متنوعة أبرزها أقلام الرصاص والحبر الناشف والسائل وغيرها، وبمعنى آخر يرسم برؤوس أقلام رفيعة وبدقة متناهية تستعيد تقنية المقدرة الكلاسيكية في أبراز تدرجات الظل والنور والتفاصيل الدقيقة, أي أن سورياليته تعتمد بالدرجة الأولى على الحفاظ على التقنية الواقعية والكلاسيكية في أسلوب تشكيل أحلامه الخيالية, ورموز عوالمه وأحاسيسه الساخطة والممزقة والمسحوقة بأهوال وكوابيس الحروب عبر أشكاله المتناقضة التي تكشف عن تناقضات الواقع, ومعطيات الماضي والحاضر في خطوات إلغاء الجماليات التقليدية بإسقاط الانطباعات المبهمة والمشحونة بالترقب والغموض وتداعيات الأشكال الخيالية، هكذا يمكن التماس عوالم الأحلام والرؤى الفانتازية التي تسجل رؤى الأحلام السوريالية في رسومات ولوحات مطيع علي المعروضة، إلى جانب بعض دراساته الأكاديمية والواقعية، كأن اللامعقول الذي يجسده في لوحاته، يرتبط في رموزه وعلاماته الإيحائية بتناقضات الواقع الراهن الحامل رؤى كوابيس الحروب المعلنة والمؤجلة.
ولقد قدم للمعرض الفنان النحات والناقد التشكيلي محمود شاهين بكلمة نشرت في دليل المعرض وجاء فيها: «ماذا يعني أن نجد في أعمال الفنان مطيع علي قريته (القنجرة) بصخورها ونباتاتها وحيواناتها وينابيعها، مختلطة بأشواقه ولهفته المرتعشة للجسد الأنثوي العاري، ماذا يعني أن نجد كل هذا مختلطاً بالبدائيين وبول كلي وكاندينسكي وسلفادور دالي وسعيد مخلوف وعدنان ميسر، وهل رغبته الشديدة بالتعرف على فنهم هو الذي قاده إلى محترفات قسم الحفر في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق. الجميل والمدهش والفريد في تجربة هذا الفنان، أنها رغم نزوعها الدائم للبحث والتجريب لم تفقد فطريتها وطرافتها وواقعيتها المعجونة بالسوريالية.. ولم تتخلَ عن موضوعاتها المترعة بخيال خصب، وحسية عالية، وقدرات توليفية تشكيلية سليمة .