التعصّب الأعمى للفن الواقعي واعتباره بداية ونهاية العالم، وعدم الاعتراف بجماليات الفنون الحديثة أو بعبارة أوضح عدم القدرة على استشفاف واستشراف جمالياتها لا يشير إلا لحالة واحدة، هي انعدام الثقافة الفنية وانعدام المتابعة، وعدم القدرة على التفاعل مع معطيات التجربة الفنية، حين تصل إلى أقصى حدود المغامرة، في خطوات تفاعلها مع تحولات وانعطافات فنون القرن العشرين، قرن التحولات والانقلابات الفنية الكبرى.
وهذا لا يعني التقليل من قيمة الفنون الكلاسيكية أو الواقعية أو الأكاديمية، بل على العكس من ذلك، فهي أم الفنون، ونحن نقدر من يمتلك القدرة والموهبة والأساس الأكاديمي المتين، تماماً كما نقدر من يمتلك موهبة وقدرة على التحوير والتحريف والحذف والإضافة، والعمل الذي يفرض نفسه في النهاية، هو العمل المميز والمتفرد على الصعيدين التكويني والتلويني، سواء كان واقعياً أم تجريدياً .
وحين أصدرت كتابي الموسوعي والنقدي والمرجعي ( تيارات الحداثة في التشكيل السوري) في مطلع عام 2010، تعاملت مع التجارب الواقعية ومع التجارب التجريدية بدرجة الحياد نفسها، وهذا ما أشار إليه الفنان والناقد أسعد عرابي في كلمته التي نشرت في مقدمة الكتاب.
الفن الحديث ثقافة قبل أي شيء آخر، بخلاف الفن الكلاسيكي والواقعي، الذي لا يحتاج إلى ثقافة من الفنان والمتلقي معاً، فالأمّي الذي لا يعرف القراءة والكتابة تثيره الأعمال التقليدية، التي ليس فيها لمسة إبداعية، ولا يلتفت إلى كل تراث الفن الحديث ( إلا حين يدخل في دائرة الاستعمال) تماماً كبعض أدعياء الفن الواقعي، الذين يعتمدون على الصور الجاهزة، في خطوات إنجاز أعمالهم المطلوبة في السوق الاستهلاكي التجاري حصراً.
والفنان الذي يتنقل بين الواقعية والتجريدية في خطوات إنجاز أعماله أو يمزج بينهما، ضمن روح فنية واحدة، ناتجة عن صدق تعامله مع خطوطه وألوانه أو مع تشكيلاته الفراغية، يسهم في كسر النظرة التعسفية والمتخلفة إلى الفنون الحديثة، ويقف في منتصف الطريق بين الواقعية والتجريد، تماماً كما يقف الناقد الموضوعي، من مسافة واحدة من كل الاتجاهات الفنية القديمة والحديثة في خطوات تقييمه وإعطاء كل تجربة حقها معتمداً على معايير نقدية وجمالية حديثة ومعاصرة.
السابق