التاريخ في السينما: الخيال يغييب الوقائع

الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:
يسرد كاتب السيناريو جريجوري ألين هوارد ذكرياته، قبل 26 عاماً حين حمل سيناريو فيلم يتحدث عن البطلة الأفرو- أميركية الداعية لإلغاء عقوبة الإعدام هارييت توبمان – وحديثاً جرى تكريمها بطبع صورتها على فئة 20 دولاراً- حين رد عليه مدير الاستديو» هذا السيناريو رائع، لنعطي جوليا روبرتس دور هارييت توبمان القصة قديمة ولن يرى أحداً الفرق» ولكن في عام 2019 تناولت السينما السيرة الذاتية لهارييت ولعبت الدور الممثلة البريطانية من أصل نيجيري سينيثيا إريفو، وفازت بترشيحين لجوائز الأوسكار وحفاوة بالغة.
وهذا يبرز السؤال الملح» هل تصدق السينما في نقلها التاريخ؟ وهل هي مخلصة له؟
يقول كاتب سيناريو فيلم (كل رجال الرئيس – 1976) وليم جولدمان – الذي تحدث عن فضيحة ووترغيت-: « ليس مهماً أن يكون ما تقوله في الفيلم صحيحاً, بل المهم أن يعتقد الجمهور أن هذا هو الصحيح «
ولد الفيلم التاريخي مع ولادة السينما، وفي أعقاب عرض فيلم ( ولادة أمة ) عام 1915 للمخرج وليم غريفيث، تحدث فيه عن حروب الانفصال في الولايات المتحدة، رأى الرئيس ويلسون في السينما إمكانيات « كتابة التاريخ تحت الأضواء «.
وفي الحقيقة، غالبًا ما تتعامل أفلام التاريخ أو الأفلام «التاريخية» باستهتار مع الوقائع، دون إيلاء أي اهتمام للبعد التاريخي، ولذلك نراها غالباً ما تقع في: أخطاء واقعية، مفارقات تاريخية، مؤثرات خاصة أو تشويه للحقائق.. هذا هو ما لديها!! ورغم ذلك هذا لا يغير من متعة المتفرج.. ما يعني ابتعاد تلك الأفلام عن الشرط الأول لتحقيق فيلم يوصف بأنه تاريخي.. أي ضرورة إثبات الحقائق والشخصيات الرئيسية من قبل المؤرخين… وما نراه لا ينطبق على معظم الأفلام.. حيث يبتعد صناع الأفلام عن التقيد الحرفي بوقائه الأحداث، وبالتالي يتحركون ضمن مروحة مساحية واسعة، بذريعة الضروريات السردية السينمائية والحبكة وكسب الجمهور.
وضمن هذا السياق، أثار عرض منصة نتفليكس المسلسل الوثائقي «الملكة كليوباترا» عاصفة من الغضب في الشارع والأوساط الثقافية المصرية.. وسبقه بأيام قليلة، عرض المنصة لمسلسل بعنوان «الملكة شارلوت: قصة من بريدجرتون». يسرد المسلسل، المكوّن من ست حلقات، قصة زواج السمراء شارلوت (1744-1818) من الملك الإنجليزي جورج الثالث. (1738-1820).. التي تنحدر مباشرة من الفرع الأسود من البيت الملكي البرتغالي، وربما كانت أول ملكة بريطانية سوداء. ورغم أنّ أحداث المسلسل تستند إلى وقائع حقيقية إلا أنه يستهل أولى حلقاته بتنويه مكتوب ومنطوق يقول: «هذه قصة الملكة شارلوت، وهي ليست درساً في التاريخ، بل قصة خيالية مستوحاة من الواقع، وكل تجاوزات الكاتبة متعمدة تماماً». وفي أعقابه عرضت المنصة مسلسلًا وثائقياً تاريخياً بعنوان «ملكات أفريقيات: إنجينجا» يعيد التعريف بالملكات الأفريقيات بأسلوب وثائقي درامي ومقابلة خبراء التاريخ، ويبدأ موسمه الأول بالملكة إنجينجا.. وأيضاً عرضت مسلسلًا بعنوان «حكايات فولكلورية أفريقية، أُعيدَ تخيُّلها درامياً» (ويروي ست حكايات شعبية أفريقية في سلسلة مختارات متعددة اللغات لاستكشاف موضوعات الحزن والحب والتصوف)
صدرت هذه الأعمال خلال الشهور القليلة الماضية وسبق لنتفليكس أن عرضت أعمالًا أخرى تحتفي بالثقافة الأفريقية، وهو ما يثير التساؤل حول الأسباب التي تقف وراء هذا الاحتفاء وأسباب اختيار ممثلة سمراء (أديل جيمس) لتقوم بدور كليوباترا.. الأمر الذي جر على المنصة تهمة تزوير التاريخ والوقوع في مغالطة تاريخية صارخة-كما جاء في بيان صادر عن وزارة السياحة والآثار المصرية- ولا سيما أن الفيلم مصنف فيلماً وثائقياً لا عملاً درامياً، الأمر الذي يحتم على القائمين على صناعته ضرورة تحري الدقة والاستناد إلى الحقائق التاريخية والعلمية.. مع العلم أن الفيلم يستند على جدل تاريخي، حسب ما جاء على لسان الخبراء في المسلسل في عدم إثبات أصل كليوباترا العرقي بالتحديد.
تقول المرويات أن ( كليوباترا السابعة ) تنحدر من أصول مقدونية عَريقة حكمت مصر نحو 300 سنة، أسسها الملك «بطليموس الأول» وهو أحد القادة المقدونيين بجيش «الإسكندر الأكبر» الذي آلت إليه ولاية مصر بعد وفاة «الإسكندر»، وأسس الأسرة البطلمية، وهو الذي تزوج من الملكة «برنيكي الأولى» ذات الأصول المقدونية أيضاً، وأنجبا الملك «بطليموس الثاني» حيث استمر من بعده أبناؤه وأحفاده الملوك في التزاوج من أخواتهم الإناث طبقاً لعادات ذلك العصر، وصولاً للملكة «كليوباترا السابعة» وأخيها «بطليموس 14»، محافظين على نقاء عرقهم المقدوني خلال كل هذه الفترة الزمنية.. ولكن وفي ظل غياب الوثائق المكتوبة، يبقى من السهل تزييف التاريخ، روايات مقابل أخرى.. سالي آن أشتون واحدة من المتحدثين في الوثائقي ومؤلفة كتاب ( كليوباترا ملكة مصر ) تقول كان هدفي من هذا الكتاب محاولة العثور على ( كليوباترا الحقيقة) بيد أنني أدركت فيما بعد وفهمت أن ما كنت أعنيه بكليوباترا ( الحقيقية ) هو رؤيتي الخاصة لكليوباترا.. وتؤكد أن استبعاد أن تكون بشرة كليوباترا سمراء غالباً ما يصدر من تحيز أوروبي، ولكن تثبت الأدلة المتبقية أن كليوباترا كانت تعتبر نفسها مصرية وبالطبع من أصل مقدوني.. أدلة قوية من حياتها في مصر تشير إلى رغبتها في أن يُنظر إليها على أنها مواطنة مصرية في موطنها الأصلي وأنها أهملت تراثها الإغريقي لصالح تقاليدها (المصرية) الأصلية.
وهذا الجدل التاريخي، حول لون بشرة الملكة المصرية استغربه الخبراء في المسلسل:» بما أنّ كليوباترا تعتبر نفسها مصرية يبدو من الغريب أن نصر على تصويرها على أنها أوروبية المظهر بامتياز».
غياب صيغة الجزم يظهر أيضاً عبر تناقض الكلمة والصورة في الفيلم، أو المادة التاريخية والمادة الدرامية.. خبراء التاريخ ينفون إمكانية معرفة لون بشرة كليوباترا الحقيقي وينتهون إلى «احتمال» أن تكون سمراء.. لكن الجانب الدرامي لا يكتفي بهذا بل يذهب إلى تصوير حاشيتها- وأغلب من يظهرون في الكادر- بلون البشرة نفسه! خبراء التاريخ يقولون: كان عمر كليوباترا (18 عاماً) حين تولت مقاليد الحكم.. لكن الممثلة (مواليد 1996) تبدو أكبر من هذا العمر بكثير.. الأمر نفسه يقال عن أخيها بطليموس الثاني عشر الذي كان حينها طفلًا، لكن صناع الفيلم اختاروا للدور شاباً في منتصف العشرينات تقريباً!
ثمة جانب نسوي إيجابي في المسلسل عن قوة المرأة وقدرتها على المواجهة والقيادة.. حيث يُظهر الفيلم المرأة المصرية قديماً بصورة إيجابية مقارنة بالمرأة في روما.. «كانت النساء في مصر يملكن حقوقاً شبه متساوية مع الرجال بموجب القانون.. يمكن للنساء أن يخترن من يتزوجن ومن يطلّقن ويمكنهنّ أن يؤسسن عملًا ويحتفظن بأملاك خاصة بهن.. بينما كان يفترض بالنساء في روما أن يبقين في البيوت خاصة نساء الطبقة الراقية.. بينما لم يكن على نساء مصر الاستجابة لتك الفكرة..»، ثمة ما يمكن إسقاطه هنا على وضع المرأة في الحاضر وهو ما ينبغي أن يُخجل منه.
تستطيع الشاشة تزييف الوعي لكن ليس تزوير التاريخ.. المسألة لا تتعلق بعدد من تتمكن من إقناعهم بالسردية الإعلامية الجديدة أو المغايرة لما هو سائد شعبياً وعلمياً؛ بل تتعلق بوجود مرجعية موثوقة علمياً.. مع ذلك ترتبط الرغبة في تغيير الوعي بالأجندات من ورائها.. فكما رأينا لم يكن التاريخ هو المرجعية الأساسية المقنعة التي اعتمدت عليها السردية الصهيونية في استيلائها على الأرض، بل اعتمدت بالدرجة الأولى على دغدغة المشاعر الإنسانية عبر مئات من الأفلام السينمائية والوثائقية. من خلال عبارة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» ومن خلال القوة العسكرية، تمكنت الصهيونية من تحقيق أهدافها.. لكن ما الذي يمكن أن يكون وراء تكريس «المركزية الأفريقية»؟ وهو ما تسعى إليه المنصة المذكورة.. هذا سؤال ينتظر من الباحثين الإجابة عليه خصوصاً وأن تكريس هذه المركزية ليس بجديد ويفترض أن يكون الباحثون قد خرجوا بنتيجة تقف وراء هذا الاحتفاء.. أما تكرار الحديث عن وجود أجندات فيصب في خانة «نظرية المؤامرة» وهو ما لا يقبله العقل العلمي الذي لا يرضى لنفسه أن يكرر مقولات المنجمين.
     

العدد 1145 –  23-5-2023  

آخر الأخبار
وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص