أديب مخزوم:
أول مايلفت النظر لدى رؤية لوحات معرض الفنان شفيق اشتي ( الأستاذ في كلية الفنون الجميلة ) والمستمر في المركز الوطني للفنون البصرية، هو غياب الدقة الواقعية، التي ميزت بعض لوحاته منذ بدايات إنطلاقته الفنية، والتي عالج من خلالها المشاهد الأثرية منذ كان طالبا في مركز الفنون التشكيلية في منتصف السبعينات، وحين كبرت أحلام ريشته بعد عودته من الاتحاد السوفييتي (سابقا) في نهاية الثمانينات، استعاد المشاهد الأثرية بطريقة خيالية (تداخلت فيها الأوابد الحضارية مع القطع النسيجية العملاقة وإيماءات الأشكال الإنسانية) ولقد تدرجت الصياغة التشكيلية في فنه من تلك التي اهتم فيها بإبراز الدقة والتفاصيل الصغيرة، إلى تلك التي أبرزت التبسيط والتلقائية في التأليف التكويني والتلويني. بحيث ظهر فيها المشهد في أحيان كثيرة مركبا من عناصر عدة (الأقواس والأعمدة والتيجان والأشكال الإنسانية).
في معظم لوحاته المعروضة عالج الأشكال بعفوية مطلقة، حولت اللوحة إلى لمسات وضربات وحركات لونية وخطية سريعة، برزت من خلالها الرموز الحضارية القديمة والعناصر الإنسانية و الرموز الأخرى.
وفي لوحاته التي يبسط فيها الأشكال، كان ولايزال يدخلنا في الهاجس نفسه المتواجد في أعماله التي كان يكثف فيها الوعي بالصياغة العقلانية المركزة، حين كان يتعامل مع المشاهد الأثرية و غيرها بروح البحث عن جمالية خاصة تبرز براعة الرسم و قدرة التأليف و التكوين و التلوين. وفي تنقله من الصياغة الواقعية الهادئة، إلى الصياغة العفوية المتحررة لم يكن يتخلى عن أسلوبه الفني ، حيث كان يبقى خاضعاً لجماليته الفنية الخاصة، التي يمكن أن تتحقق من خلال الاختصار عبر لمسات تحافظ على قدرته و موهبته.
والاختزال التعبيري ليس جديداً في فنه القادر على تحقيق كل عناصر الدهشة والإقناع، حتى في أقصى حالات التبسيط و الاختصار والتجريد، وهو كان يميل إلى اللمسة العفوية في معالجة لوحات سبقت عام 1975 كما قال لي في حوار سابق .
إلا أن الجديد في معرضه هو اختيار لوحات ( حوالي 24 لوحة بقياسات مختلفة ـ بعضها ثلاثيات ورباعيات) موقعة خلال العشر سنوات الأخيرة ، ركز فيها على الحركات الخطية السريعة والتي تتداخل مع الخلفيات التجريدية، وثمة تحول تقني واضح تضفيه الكثافات الناتجة عن إلصاق كتل ورقية بطريقة الكولاج، حولت بعض اللوحات إلى سطح تضاريس . وثمة خطوط متناهية العفوية موضوعة برؤوس أقلام فوق ألوان الأكريليك المتناهية العفوية هي الأخرى .
في مراحل سابقة ( كان شفيق اشتي يقف في منتصف الطريق بين الواقعية والإختزال التعبيري العفوي ) في معالجة حركات الخطوط ولمسات اللون ، أما الآن فهو ينحاز إلى اللوحة التعبيرية القريبة أحياناَ من التجريد، وهو لا يرغب في التخلي عن إشارات الموضوع الإنساني أو المعماري أو الأثري، ربما لأنه آمن منذ البداية أن وجود خط رشيق ومنساب طلاقة وحيوية وعفوية ورهافة يحقق أعلى درجات الإقناع . لأن الناس عندنا لم تعتد بعد على التجريد الخالص . وهذا أيضا ما أشار إليه في حوار سابق أجريته معه حين قال: ” الناس عندنا كما تعلم لا تزال تتعامل مع اللوحة ببدائية ، لذلك ألبي رغبات هؤلاء بلوحة واضحة ومفهومة من الجميع، وفي المقابل عندما أريد أن ارسم لوحة ترضيني، فأنا أفضل الرسم العفوي أو الانفعالي السريع كما تسميه أنت ” .
إنه تحول وتطور طبيعي لفنان محترف امتلك منذ البداية، وقبل دخوله محترفات كلية الفنون، موهبة كانت متجلية في خطوطه وألوانه وقدرته على تحديد أماكن الظل والنور، وكل ما تستلزمه اللوحة الأكاديمية الناضجة من عناصر ومقومات وقواعد .
وحين قلت له منذ حوالي عشرين عاماً: هل يمكن أن تصل لوحاتك إلى التجريد الخالص، لا سيما وأنك تتجه تدريجياً نحو الاختصار والاختزال والتبسيط؟ قال : ” لوحتي ستبقى حاملة خصوصيتي وستبقى تذكرني بلوحتي الأولى ، وأنا سأحافظ على العناصر التاريخية لكنها في مراحل لاحقة قد تأخذ أبعاداً متلاشية وقد يجد المشاهد صعوبة في إيجاد عناصرها التعبيرية ” .. وهذا ما تحقق في هذا المعرض، لقد غاب عن لوحات معرضه الجديد المشهد الواقعي الدقيق تماماً، وبقيت إشاراته وحركاته الدالة عليه، كما أن المناخ اللوني المائل في أحيان كثيرة نحو لغة الرماديات له علاقة مباشرة وغير مباشرة باللون المحلي، الذي تعرفه مدينته السويداء وضواحيها، وهو قادم من مخزون ما ترسخ في ذاكرته البصرية المشبعة بلون وأجواء الحجر البازلتي ، كما يمكن أن يكون متأثراً بالمرحلة الرمادية، التي عشناها أثناء وبعد الحرب المدمرة .
السابق