الثورة – عبد الحليم سعود:
لكل أمة عريقة مواقف ووقفات عز وشرف مجيدة تفاخر بها مدى الدهر لأنها تشكل رصيدها الثر وثروتها الغنية في مجال القيم والمبادئ والرسائل التي تورث لأجيالها المتلاحقة كي تهتدي بنورها وتنهل منها لتحفزها دائماً على صون كرامتها وكبريائها وتعزيز مكانتها وحضورها بين الأمم والشعوب.
وقد برع السوريون طوال تاريخهم بصنع الملاحم والانتصارات وخوض معارك الشرف البطولية التي جعلت من بلادهم مخرزاً في عيون الطامعين والمعتدين، ولا يختلف دارسان للتاريخ الحديث بأن يوم التاسع والعشرين من أيار عام ١٩٤٥ شهد موقف عز مشرف في تاريخ سورية لما حمله من معاني الكرامة والإباء والأنفة والاعتزاز المتجذرة في نفوس أبناء سورية.
واليوم تصادف الذكرى الثامنة والسبعون لوقفة العز والشرف التي وقفتها حامية البرلمان في وجه طغيان الاستعمار الفرنسي لتكون هذه الوقفة العظيمة إيذاناً بجلاء المستعمر الفرنسي عن أرض سورية بعد أقل من عام على عدوانه الآثم على دمشق وأحيائها ولاسيما بعد أن أذاقه أجدادنا العظام على مدى ٢٦ سنة من تاريخ احتلاله لبلادنا طعم الهوان والذل والهزيمة وأجبروه على الجلاء والاعتراف باستقلال سورية.
لقد لخّص العدوان الفرنسي صبيحة التاسع والعشرين من أيار عام 1945 على مدينة دمشق إفلاس فرنسا في مواجهة سعي السوريين الحثيث لنيل استقلالهم، وعجزها عن تمديد فترة انتدابها غير الشرعي لفترة أطول، ليؤدي عدوانها الغادر وغير المتناسب إلى ارتقاء عشرات الشهداء بين حامية البرلمان من رجال الشرطة والدرك الشجعان، الذين رفضوا تقديم التحية لعلم الاحتلال الفرنسي عند إنزاله من على ساريته فوق دار الأركان الفرنسية المقابلة لمبنى البرلمان آنذاك.
رغم مرور كل هذه السنوات الطويلة على تلك الملحمة الخالدة لا تزال حاضرة في تاريخ وذاكرة السوريين عموماً كواحدة من وقفات الشرف العظيمة التي وقفها أجدادنا في وجه المحتلين بدءاً بوقفة شهداء السادس من أيار عام ١٩١٦ في وجه الاحتلال العثماني وقوانينه وقراراته المجحفة بحق السوريين وصولاً إلى وقفة الشهيد البطل يوسف العظمة ورفاقه في ميسلون في مواجهة الغزاة الفرنسيين، هذه الوقفات التي كان لها أثر كبير في إشعال جذوة الثورة تحت أقدام المحتلين من أجل طردهم واستعادة الاستقلال الوطني الذي ما كان ليتحقق لولا مثل هذه التضحيات الجسام.
لقد شكلت ملحمة البرلمان نبراساً استضاء به أبناؤنا في القوات المسلحة ممن يدافعون اليوم بكل بسالة عن وحدة سورية واستقرارها واستقلالها في وجه أعتى حرب إرهابية دولية تخاض ضد بلدهم، بدعم مباشر من قوى الاستعمار الغربي وأدواتهم من قوى الظلام والتطرف والتكفير والإرهاب، ويحققون الانتصار تلو الآخر، محافظين على إرث أجدادهم العظام من رجالات الثورة والاستقلال.
وما أشبه اليوم بالأمس البعيد، فما زالت سورية مستهدفة من قوى الشر والعدوان الأميركية والغربية والتركية والصهيونية وأدواتهم ومرتزقتهم، وما زال أبناؤها البررة يقدمون قوافل الشهداء وأغلى التضحيات لصون المبادئ والقيم التي دافعت عنها حامية البرلمان وهي القيم والمبادئ المزروعة في وجدان السوريين على تنوعهم الاجتماعي والديني والسياسي.
واليوم إذ نحتفل بهذه الملحمة الخالدة التي صاغها ثلة من أجدادنا الميامين نذكر المحتلين وأدواتهم أن السوريين لا ينامون على ضيم ولا يذعنون لاحتلال أو غزو وما عليهم سوى الرحيل لأن هذه الأرض العزيزة بأبنائها كانت طوال تاريخها مقبرة للغزاة والمحتلين على اختلافهم واختلاف أساليبهم الهمجية والبربرية.