د. عدنان مصطفى بيلونه:
تمر بنا في هذه الأيام الذكرى السنوية لرحيل قائدين عظيمين؛ ومن أبرز صنَّاع أمجاد أمتنا ومنطقتنا؛ وهما القائد الخالد المؤسس حافظ الأسد والإمام آية الله الخميني، (رحمهما الله)، حيث يعود لهما الفضل كلُّه في إرساء أقوى وأعمق العلاقات بين البلدين الشقيقين سورية و إيران، هذه العلاقات التي أغاظت الأعداء، وارتقت في جميع المستويات.
وبناءً على متانة الأسس التي وضعها هذان القائدان الاستثنائيان تم تحقيق الكثير من الانتصارات على مؤامرات الأعداء وعلى مشاريعهم الخبيثة في العديد من ساحات المواجهة على مدى عقود من الزمن، فقد ضرب السوريون والإيرانيون ومحور المقاومة بشكل عام أروع الأمثلة في الصمود والتضحية والوفاء والثبات على المبادئ على الرغم من الصعوبات والأخطار والمؤامرات التي حاكتها قوى الاستكبار والصهيونية العالمية في سعيها للنيل من صلابة ومتانة هذه المقاومة التي أثارت رعبهم وأفشلت مخططاتهم ومشاريعهم في سورية وإيران ولبنان وفلسطين والعراق واليمن وغيرها من المناطق بالتعاون مع الشرفاء والأحرار في شتى بلدان العالم.
ولعل من أجرأ ملامح سياسة الرئيس الراحل المؤسس حافظ الأسد الخاصة التي أعيد تشكيلها لمواجهة الكيان الإسرائيلي كانت بلا شك وقوفه مع الثورة الإسلامية في إيران مكوناً محوراً نضالياً جديداً يمتد من طهران عبر دمشق إلى بيروت فجنوب لبنان، لمواجهة هذا الكيان العنصري.
ومنذ اللحظة التي تسلم فيها الإمام الخميني السلطة في أوائل عام 1979، اعتبر الرئيس الراحل حافظ الأسد مصادقته لإيران الثورة ضرورة تقتضيها المصلحة القومية العربية العليا، وظل الرئيس الأسد متمسكاً بصواب موقفه وتوطيد علاقته مع الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني.
وكان الزعماء الروحيون الذين صادقهم الراحل الكبير حافظ الأسد قد انتصروا على عرش الطاغية محمد رضا بهلوي وجهاز السافاك الدموي الذي يتبع له، بعد صراع طويل ومرير واختبار للإرادة والقوة، فقد ظل الشاه طيلة عام 1978 يخوض معركة مستمرة لا تهدأ ضد الجماهير الإيرانية الثائرة، وبفعل التردد الأمريكي استسلم لمصيره وغادر البلاد في 16 كانون الأول سنة 1979 وبعد ذلك بأسبوعين في أول شباط عاد الإمام الخميني (وهو في السادسة والسبعين من عمره) ليحقق ما يصبو إليه الشعب الإيراني الذي حطم عرش الشاه العميل و جبروته.
لقد كان الشاه يلعب دور شرطي المنطقة رقم 2 بعد الشرطي رقم 1 “إسرائيل” لحماية مصالح أمريكا والمشروع الصهيوني في المنطقة والحد من النفوذ السوفييتي السابق في الشرق الأوسط الذي كان يهدد المصالح الأمريكية في المنطقة، ولا سيما أن إيران تقع على حدود الاتحاد السوفييتي السابق وتشتركان بحدود طولها 2500 كم.
لقد رُسم للشاه دور في استراتيجية الهيمنة الأمريكية للسيطرة على كامل المنطقة لموقعها الاستراتيجي من جهة وللاحتياطي النفطي الموجود فيها من جهة أخرى، والذي يتجاوز 60 بالمئة من الاحتياطي العالمي.
أما عن سبب تخلي أمريكا عن الشاه وعن دوره فهو يعود إلى طبيعة السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط التي وقفت عاجزة في وجه ثورة الإمام وشعبه الرافض للهيمنة والسيطرة الأجنبية على ثروات ومقدرات البلاد، ناهيك عن أنها تحاول أن تخلق معادلات جديدة في توازن القوى إذا ما نجحت هذه الثورة، فالسياسة الأمريكية الخارجية تضع كل الاحتمالات التي تخدم مصالحها الحيوية، ومن المفيد أن نذكر في هذا السياق إزاء الوضع الإيراني الداخلي وقتذاك ومع انحسار الدعم الأمريكي لعميلهم الشاه الذي خذلوه، كان القائد الأسد يمد يد المساعدة إلى رجال الثورة الإسلامية ويقدم لم كل أشكال الدعم و التسهيلات.
لقد رحب القائد الأسد بانتصار آية الله الخميني واستلام الثوار زمام السلطة في طهران حيث أرسل له برقية تهنئة حارة، و بعد ذلك أرسل له نسخة مزخرفة بالذهب من القرآن الكريم حملها وزير الإعلام أحمد اسكندر أحمد إلى هذا القائد الإسلامي والزعيم الروحي الكبير عندما كان متواجداً في مدينة قم المقدسة، وبعد تقبيله للمصحف شكر الإمام سورية على عرضها له بالنزول في ضيافتها في أواخر سنة 1978 عندما أخرج قسراً من العراق بضغط من حكومة الشاه ولم يكن بعد قد استقر في باريس وكان بحاجة إلى قاعدة انطلاق يشن منها هجومه الأخير على الشاه وتحقيق هدفه في الانتصار، و قد حقق الإمام الخميني ذلك بعودته إلى طهران بتاريخ 1 شباط من عام 1979 وتابع نضاله الثوري حتى إنجاز الانتصار وإسقاط عرش الشاه في 11 شباط 1979.
وقد سُرَّ الرئيس الأسد لخبر سقوط الشاه وصمم على الاستفادة من موضوع تغيير النظام في إيران لمصلحة العرب الاستراتيجية حيث بذل جهوداً مضنية لإقناع الحكومات العربية بالنظر إلى الثورة الإسلامية في إيران من زاوية مختلفة، فإيران اليوم كما قال الأسد ليست إيران الشاه صديق إسرائيل وعميل أمريكا بل هي إيران الملتزمة بالعداء للإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية، وكافح كثيراً دفاعاً عن هذا الرأي بالقول: “إن آية الله الخميني قد كسر فكَّي الكماشة التي ظلت إسرائيل والشاه يحاصران بها العرب ثلاثة عقود من الزمن”.
و من نفس المنظور الاستراتيجي كان الرئيس حافظ الأسد يرى الشرق الأوسط ككل متكامل، وهي الرؤية الصائبة للتوازن الإقليمي التي كان على العرب أن يفهموها ويعوها وبالأخص بعد الخرق الإسرائيلي باتجاه الشمال والتحالف التركي الإسرائيلي في منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي، وقد هاجم الإمام الخميني أمريكا وسماها الشيطان الأكبر ومزق اتفاقيات الشاه معها وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل واعتبرها غدة سرطانية يجب استئصالها من جسد الأمة، وانسحب من معاهدة السنتو (حلف بغداد)، وفي إشارة رمزية لها مغزاها السياسي سلم الإمام الخميني سفارة الكيان الصهيوني في طهران إلى منظمة التحرير الفلسطينية واعتبر الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك يومأ عالمياً للقدس، وهكذا بينما ارتجف الكثيرون من صعود آية الله الخميني، وقف القائد الأسد إلى جانبه مظهراً بذلك بُعد نظر سياسي ثاقب ومرونة استراتيجية أثبتت جدارتها فيما بعد عربياً وإقليمياً، وإن هاتين الميزتين لا يتمتع بهما إلا القادة الكبار في التاريخ.. رحم الله القائدين التاريخيين العظيمين وطيب ثراهما.
*المراجع: “الأسد والصراع على الشرق الأوسط – باتريك سيل “، “القائد الأسد والأمن القومي العربي – د. عدنان بيلونه “، “السياسات الدولية والصراع العربي الإسرائيلي- روبرت فريدمان”، “مذكرات الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون”، “دراسات في الأمن القومي العربي- د. هيثم كيلاني”، صحيفة كيهان الإيرانية – العدد الصادر في 19/8/1979.