لايمكن للثقافة الساكنة أن تنتج مجتمعاً متقدماً متطوراً آخذاً بأسباب الحداثة وفي نظرة نقدية فاحصة وموضوعية لقراءة أسباب تطور وارتقاء الشعوب والأفراد ماضياً أو حاضراً يصل القارئ النقدي والمتفحص في مخبر التحليل الاجتماعي والأبسمولوجي إلى قناعة بأنه بمقدور البشر تغيير حياتهم إذا غيروا مواقفهم الذهنية وإنها هي السبب الرئيس في تطورها فلو وضعنا في مخبر التحليل إمكانات وموارد وثروات كل من اليابان وهولندا ومصر والعراق على سبيل المثال لوجدنا أن تلك الدول تمتلك ثروات متقاربة إن لم تكن الكفة تميل لصالح العراق ومصر ولكننا بالمقارنة مع مستوى التطور الاقتصادي والتقاني نجد أن الكفة تميل لصالح الدول الغربية لأسباب تتعلق من وجهة نظرنا في أنها شعوب تفكر بطريقة وذهنية مختلفة فإذا كان الناس يتوحدون في الرغبة في السعادة والتطور لكنهم لا يتبعون نفس طرائق التفكير في الوصول إليها وهنا تبرز مسألة غاية في الأهمية تتعلق في دور التفكير العقلي وتوظيف طاقات الشعب وثقافته وأخلاقيات العمل المتشكلة في وعيه الجمعي حيث لا يمكننا القيام بأي عمل بشري فعال ومنتج دون مشاركة الدماغ ذلك الكمبيوتر البيولوجي المتوفر لدى جميع البشر وآلية استخدامه واستثماره بوصفه الطاقة المنتجة والمبدعة على الصعيدين الفردي والجماعي وهنا يصبح الإنسان ملك الطبيعة إذا اصبح العقل سيد الموقف حيث العقل آلية موجودة تمتلك امكانية النصر في معركة الوجود.
إن الكمبيوتر البيولوجي الموجود في داخلنا أي الدماغ لا بد من أن نخلصه من كل القمامة المخزنة بداخله وتحديثه وتحقيق حالة ذهنية جديدة لتجاوز الحالة السلبية العالقة والمتراكمة فيه ولاسيما القناعات العفنة التي هي تعّود لزمن كرسته ثقافة وافدة ليست نتاج محاكمة عقلية وخيارات حرة شكلت تراكماً للعقل الباطن الذي يخشى ويتوجس من كل وافد جديد.
إن أي سعي لبناء عقلي ومعرفي جديد يؤسس لطريقة تفكير وذهنية مختلفة لابد أنه ينطلق من تحليل متعمق للمعتقدات الشخصية والجمعية الموروثة بما فيها التعليم والعادات والتقاليد وكل ما اختزنته ذاكرتنا من منظومات تفكير وإخضاعها للنقد لمعرفة مدى موضوعيتها وانسجامها مع التفكير الحر والعقلاني ومنطق الأشياء ومدى تفاعلها وتناغمها مع العصر، الأمر الآخر لابد من تخليص العقل الباطني من الفائض السلبي المتراكم فيه، فحقيقة اليوم ليست حقيقة الأمس ولن تكون حقيقة الغد ولا حاجة لتشعر بالألم حتى نغير أو نتغير فالتفكير هو طريق التغيير ولا حاجة للانتظار ورسائل الألم، فحصول ذلك ونحن في بهجة وسعادة أفضل وأنسب من تغيير قسري كولادة عسيرة.
لقد كثر طرح الاسئلة لدى نخب فكرية وثقافية ولاسيما في القرن التاسع عشر لماذا تأخرنا وتقدم الغرب ومع الأسف لم تكن الإجابات أو التحليلات تغوص في عمق المشكلة فتركزت على العوامل الخارجية من احتلال واستعمار واستبداد وغيرها من العناصر ولا شك أن في ذلك درجة من المصداقية ولكنها لا تفسر بشكل عميق أسباب تلك الوضعية القاسية و الخطيرة وحالة التأخر الحضاري لدول منطقتنا وشعوبنا التي نالت الاستقلال منذ ما يقرب من سبعة عقود ويفترض أنها تخلصت من الكثير من معوقات بناء دولة حديثة وعصرية تقوم على الوطن والمواطنة وسيادة القانون والتنمية المستندة إلى بناء الإنسان والمؤسسات والاستثمار الأمثل للطاقات الوطنية وبناء ثقافة مجتمعية تعلي من قيمة العلم والمعرفة ودور العقل والتفكير المنفتح وتحرر العقول من كل ما علق بها من صدأ تاريخي عبر عملية نقدية عميقة تصيب مدخلات العقل العربي لا مخرجاته فقط وتسعى لبناء مجتمع المعرفة والحرية والإبداع ولعل نقداً عميقاً وشفافاً ونسقاً تربوياً يعيد ترتيب الذهنية الوطنية على مستوى كل دولة عربية يشكل مدخلاً صحيحاً لنهضة شاملة تضعنا في الموقع المناسب في سلم الحضارة ولا نبقى على هوامشها أو سوق تصريف لبضاعتها ونفاياتها والأكثر من ذلك نصبح فاعلين في ركب السباق الحضاري إلى المستقبل المنشود لأجيالنا حيث الرهان على الشباب المسلح بالعلم والمعرفة والتفكير الحر والانتماء العميق للوطن والأمة.