لا شك أن مصطلح (التراث غير المادي) هو مصطلح حديث التداول في بلادنا، وربما يشيرهذا الواقع إلى غياب الحالة، لا غياب المصطلح فحسب. وبتعبير آخر أن الأمر يتعلق بعدم إدراك مفهوم التراث اللامادي أساساً، وليس بعدم إطلاق تسمية عليه، ويقدّم الواقع كثيراً من الشواهد التي تدعم وجهة النظرهذه، تشمل كلّ ما يدرج تحت عنوان :(التراث اللامادي) بما في ذلك المحاولات الأولى لتوثيق هذا التراث، وما آلت إليه بسبب ضعف إدراك أهمية الحفاظ عليه، وحمايته وصونه، أولاً وأساساً. وأيضاً بسبب دوافع شخصية تنطلق من حسابات ذاتية لا تضع في اعتبارها أهمية للذاكرة الوطنية.
فالمديرية المسؤولة عن حماية التراث في وزارة الثقافة، بقيت، في النظرة الثقافية العامة، المديرية الأقل شأناً وأهمية في العمل الثقافي، ولم تستطع رغم العقود الطويلة التي مضت عليها أن تخلق اهتماماً عاماً بمجال عملها، بل أن هذا المجال بقي غير واضح لغالبية الناس، بما فيهم الشرائح المعنية بالثقافة، والمؤسف أكثر أن أحد المؤسسيين الأوائل لوزارة الثقافة قد قام عامداً، ومدفوعاً بنظرة استعلائية، بمحو كم هائل من تسجيلات التراث الغنائي الشعبي السوري أنفق فريق موسيقي وفني إذاعي وقتاً طويلاً في جمعه وتسجيله، وجال لأجل ذلك من أقصى الريف السوري إلى أقصاه.
وبسبب غياب تقاليد وأعراف راسخة في التعامل مع (الوثائق التراثية) أياً كان نوعها، فإن الحالة السابقة تكررت غير مرة، فقد أقدم مخرج تلفزيوني، (فورما توفرت له السلطة الإدارية) ولسبب شخصي بحت، على محو الأرشيف التلفزيوني لأحد أوائل المخرجين التلفزيونيين. و تعرض الأرشيف التلفزيوني إلى عملية تدمير واسع منذ السنة الأولى لبدء البث التلفزيون، فتم بموجب قرار من وزير إعلام دولة الانفصال إتلاف كامل الأرشيف السياسي للتلفزيون في زمن دولة الوحدة، وقسم كبيرمن الأرشيف الثقافي والفني والغنائي المرتبط بها، أي تدميرمعظم أرشيف مرحلة البدايات.
وما حصل للأرشيف السمعي – البصري حصل للأرشيف الورقي، ففي صحيفة محلية تمّ تسليم الأرشيف البصري إلى شاب مبتديء عديم الخبرة، فقام بالتخلص من كلّ الصور(القديمة) التي تغطي كامل الحقبة الممتدة من مطلع الستينات وحتى أواخر الثمانينات بما توثقه من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية، لأنه اعتبرها صوراً قديمة.
يمكن تعميم الحالة السابقة على معظم النشاط الثقافي والإعلامي والاجتماعي، إلى الحدّ الذي يمكن أن نحكي معه بأسى عن (فقدان الذاكرة الوطنية). فماذا يعني أن نحكي عن تألق مسرح الخمسينات ولا يتوفر لدينا تسجيل تلفزيوني أو سينمائي لأي من مسرحياته ؟. والأمر ينطبق أيضاً على المهن والحرف المحلية، وأذكر تعليق رجل متقدّم في العمر بعد أن استاء من سوء صنع نوع من الحلويات التقليدية حين قال: ما يحزنني هو أن الأجيال الجديدة تعتقد أن طريقتها الحالية هي الطريقة الصحيحة. لأنها لم تتعرف أبداً على طريقة الصنع التقليدية، ولا على النكهة الأساسية.