في منتصف السبعينيات كانت الأوساط التشكيلية والثقافية بدمشق تترقب بشغف معرضاً لأحد كبار فنانينا التشكيليين، ومع أجواء الافتتاح الاحتفالية المرحبة قيل أن (مثقفاً) قد رافق ضيفاً أجنبياً وصفه بأنه من أهم النقاد الأوروبيين إلى المعرض، لكن الناقد المهم – وفق الرواية – انسحب من المعرض بعد أن شاهد اثنتين من لوحاته فقط، معلقاً بأن ما رآه هو فن ميت يفتقد الروح والحركة اللتين تعج بهما الاتجاهات الفنية المعاصرة في أوروبا، وسرعان ما انتشرت تلك الرواية.. ومع انتشارها تبنى قسم كبير من تلك الأوساط الثقافية – التشكيلية ذاتها رأي الناقد الذي لم يعرفوا اسمه، ولا قرأ أي منهم رأيه، أو أي مقال يحمل رأيه في هذا المعرض أو سواه.
إن هذه القصة التي يعرفها كثيرون قد تكون مثالاً مهماً عن طبيعة العلاقة بين جمهورنا والنقد و الإبداع بالتالي، وهي ليست الوحيدة فمثلها الكثير وجميعها تؤكد أن تلك العلاقة ينقصها العمق، ويغلب عليها الارتباك والاستعداد لتبني الآراء المختلفة دون مناقشة أو تحليل، ولو وصل الأمر بتلك الآراء إلى حد نفي وجود الفن التشكيلي في بلادنا من أساسه كما حدث مع صحفي مبتدئ كان يسعى لإجراء حوار مع فنان تشكيلي كبير، وحين سئل من قبل أحد زملائه عن الأفكار التي سيحاور بها أجاب دون تردد إنني سأسأله لماذا لا يوجد عندنا فن تشكيلي؟!! وبعد الاستيضاح عن السبب الذي يدفعه لاعتقاد كهذا تبين أن زائراً أجنبياً تحدث أمامه مرة عن إعجابه بالفن الأفريقي دون أن يشير إلى إعجاب مشابه بالفن التشكيلي في سورية ما دعاه إلى الاستنتاج بسهولة أنه ما دام الأمر كذلك فهذا يعني أنه لا يوجد عندنا فن تشكيلي، أو على الأقل ما لدينا منه لا يملك ما يميزه وإلا للفت نظر ذلك الزائر!!
وحتى لا يفهم الأمر خطأ فالمسألة لا تتعلق فقط برأي زائر أجنبي سواء كان معنياً بالفن التشكيلي أم لا، إنها تتعلق أساساً بالاستعداد لتبني رأي وتداوله دون بذل أي جهد للتحقق من صحته، وربما تكون الآراء التي سمعناها على امتداد العقود الماضية حول واقع الحركة التشكيلية في بلادنا مثالاً آخر مهماً على ذلك.. فمعظم تلك الآراء – إن لم نقل جميعها – انطلقت من أحكام مطلقة لا تمتلك أي أساس حقيقي، ووصلت بالتالي إلى نتائج يصعب القبول بها، ولأن القناعة سبقت الحوار، فقد تحول الحوار بالتالي إلى نوع من الجدل العقيم.
يُحمّل النقد عادة، أو الكتابات النقدية على وجه الدقة، مسؤولية اختلال العلاقة مع الجمهور، وإن كنت لا أنفي، ولم أنف فيما سبق، دور بعض الكتابات التي قدمت على أنها كتابات نقدية في ذلك، فإن ذلك لا ينفي في الوقت ذاته مسؤولية المتلقي أيضاً، وهنا يمكن إدراج بعض الملاحظات المهمة في هذا الإطار، أولها تتعلق بتراجع القراءة، ومهما كانت المبررات التي تساق لتبرير هذا التراجع فإن تلك التبريرات تؤكد تلك الحقيقة ولا تنفيها.. وكثيراً ما يسأل الصحفيون عن موضوع أو مقال نشر في عدد قديم من صحيفتهم، ويعلمون بحكم التجربة والتكرار أن من يطلب موضوعاً أثار اهتمامه قد فعل ذلك بتأثير آخرين قرؤوا ذلك الموضوع قبله وحدثوه عنه، وليس من المبالغة القول إننا نفتقد وجود تقاليد للقراءة، وحتى على مستوى صحيفة يومية..وفي حوار حديث بين اثنين من الوسط التشكيلي أبدى أحدهما رأياً في كتابات أحد النقاد، ولما سأله الثاني هل قرأت تلك الكتابات أجابه: “لا.. ولكن هذا ما سمعته من بعض الأصدقاء”، ومثل هذه الحادثة تتكرر باستمرار ونجد دائماً من يحكم على موضوع أو بحث لا من خلال قراءته له، وإنما من خلال ما سمعه عنه فقط.
الملاحظة الثانية تتعلق بالمستوى الثقافي، وخاصة الثقافة الفنية التي يفتقر إليها معظم الناس عندنا، ومنهم من هم من الوسط التشكيلي ذاته، ودون البحث الآن في أسباب هذا الفقر الثقافي فلابد من التأكيد أن ضعف الثقافة الفنية حيناً، وغيابها في أحيان كثيرة، يفقد العلاقة بين الجمهور والنقد أهم ارتكازاته..ويفتح المجال واسعاً أمام إعلان آراء غير موضوعية، وإطلاق أحكام متسرعة، وفي الوقت ذاته انتشار تلك الآراء والأحكام وتقبلها من قبل الجمهور، بل حتى تبنيها ومن ثم المجاهرة بها والدفاع عنها، وقد فرضت بعض الكتابات ذات الطابع الأدبي حول الفن التشكيلي على الجمهور وجهة نظرها الخاصة، وحرمته من تكوين رأيه المستقل، ولكن يجب الإشارة هنا إلى أن استعداد الجمهور أصلاً لذلك هو ما أتاح لتلك الكتابات القيام بالدور الذي قامت به.