الملحق الثقافي- أحمد بوبس:
لا نبالغ إذا قلنا إن أحمد عبيد هو صاحب الريادات الثقافية العديدة، فهو إضافة إلى كونه أديباً ألمعياً، يمكن اعتباره من أهم من قاموا بتحقيق المخطوطات التراثية، وهو صاحب ثاني مكتبة ودار نشر في دمشق، وهو أول من أصدر التقويم الجداري، وإلى كل ذلك هو الرائد في إنشاء فرقة مسرحية بعد أبي خليل القباني.
ولد أحمد عبيد في دمشق عام 1892، وبدأ تعليمه الأول في (الكتّاب)، ونشأ يتيم الأب في كفالة أمه وشقيقه الأكبر. التحق أولاً بالكتّاب، ثم بالمدرسة السلطانية المعروفة بمكتب عنبر وهي الثانوية الوحيدة في دمشق آنذاك. وأكب على قراءة الكتب، وشغف بالشعر منذ صغره فحفظ منه الكثير، وبدأ يقرضه في مطلع شبابه. وأراد له أهله أن يكون طبيباً، لكنه اختار الأدب والثقافة.
بدأ أحمد عبيد أولى خطواته في الثقافة في مطلع شبابه، وكان المسرح أول ما استهواه، فقد كان يحضر عروض الفرق المسرحية المصرية التي كانت تزور دمشق، ولا سيما فرقة سليمان قرداحي، فأحب محاكاتها، فكتب نصاً مسرحياً، ضمّنه الكثير من الحكم والطرائف، وشكل فرقة مسرحية من مجموعة من أصدقائه، وبعد التدريبات بدأت الفرقة تُقدم عروضها في إحدى القاعات الكبيرة في منزل أهل أحمد عبيد، كان ذلك أواخر عام 1907. وتكررت عروض الفرقة، ولمّا أثبتت نجاحها انتقلت عروضها إلى مسرح القوتلي في السنجقدار، لكن أحمد عبيد وجد في الكتاب خير صديق له، وبشكل خاص المخطوطات القديمة وكتب التراث. ومن أجل تحقيق طموحاته قام مع شقيقيه حمدي ومحمد توفيق بإنشاء مكتبة عام 1908، أطلقوا عليها (المكتبة العربية) وكانت في الوقته نفسه داراً للنشر، وكان موقعها في سوق الحميدية. وهذه المكتبة أتاحت له بدء مشروعه الأدبي في تحقيق المخطوطات والتعليق عليه وإصدارها. وقام باقتناء الكتب النادرة من مصر وتركيا، كما اهتم بالمخطوطات، وتعمقت تجربته فيها، فكان من أبرز الخبراء بالكتب والمراجع والمصادر في الوطن العربي.
نشر أحمد عبيد في المكتبة العربية نفائس كتب التراث العربي، وتميّز في منشوراته بالإشراف عليها إشراف العالم الغيور فيما يضعه بين أيدي الناس. فكانت كتبه التي يصدرها كأنها من تحقيقه، وكانت مكتبته من أوائل دور النشر الجادة التي خدمت الكتاب. كما كانت المكتبة ملتقى لرجال العلم والفكر والأدب، ومنهم خير الدين الزركلي ومحمد كرد علي.
نشر أحمد عبيد في المكتبة العربية نفائس كتب التراث، بعضها كانت مخطوطات قام بتحقيقها والتعليق عليها ثم طبعها وأصدارها، كما أصدر كتب كتباً أخرى من تأليفه. وبلغ عدد الكتب التي أصدرها من تأليفه أو تحقيقه أو تصحصحه وتعليقه خمسة وثلاثين كتاباً.
ومن الكتب التي ألفها (مشاهير شعراء العصر في الأقطار العربية الثلاثة مصر وسورية والعراق) و(شعراء مصر) و(طرائف الحكمة) في جزأين، و(الأمثال الدارجة) و(ذكرى الشاعرين..شاعر النيل حافظ ابراهيم وأمير الشعراء أحمد شوقي)، ومن الكتب التي جمعها ورتّبها (المسائل الشرعية في الأحكام الفقهية) و(كلمات المنفلوطي)، ومن الكتب التي حققها (تهذيب تاريخ دمشق) لابن عساكر و(روضة المحبين ونزهة المشتاقين) لابن قيّم الجوزية و(طبقات الحنابلة) لأبي علي الفرّاء، (وسحر البلاغة وسر البراعة) للثعالبي، وحقق أربعة كتب للسيوطي وكتب كثيرة غيرها.
كما طبع وأصدر في مكتبته العديد من الكتب النفيسة، من أهمها (موسوعة الأعلام) لخير الدين الزركلي، وقد نوّه الزركلي في مقدمته للموسوعة بقيام المكتبة العربية بإصدارها، إلا أن إحدى دور النشر في لبنان أعادت طباعتها عدة مرات، وحذفت منه مقدمة الطبعة الأولى.
لكن الإنجاز الأهم لأحمد عبيد ومكتبته، تمثلت في إصدار (التقويم العربي) عام 1908. ويتألف التقويم من /365/ ورقة بعدد أيام السنة،كل ورقة مخصصة ليوم، معلقة على لوحة كرتونية تغطيها الطغراء والزخارف العربية، ويتضمن الوجه الأول للورقة التاريخين الهجري والميلادي لليوم، ومواقيت الصلات لكل محافظة، وفي أسفل الورقة يُذكر المناسبة التي تصادف في ذلك اليوم مثل الأعياد الدينية الإسلامية والمسيحية والأعياد الوطنية، وإذا لم يصادف مناسبة تكتب عبارة (التقويم العربي)، أما الوجه الخلفي للورقة فيتضمن طرائف أدبية أو حكماً أو أبياتاً شعرية لشاعر مشهور، فتتحقق بذلك الفائدة الثقافية إلى جانب غايته الأساسية. وكان في الوقت نفسه يصدر تقويم آخر مشابه عن المكتبة الهاشمية، وفي عام 1918 اتفقت المكتبتان على توحيد التقويمين بتقويم واحد يصدر باسم (التقويم العربي الهاشمي)، واستمر التقويم بالصدور بالاسم الجديد حتى رحيل أحمد عبيد عام 1989، فانفرط عقد الاتفاق وعاد كل تقويم إلى اسمه الأصلي.
وإضافة إلى كل هذه العطاءات الأدبية كان أحمد عبيد شاعراً مجيداً، أبدع مجموعة من القصائد، معظمها في الموضوع الأخلاقي والاجتماعي والوطني، جمعها في ديوان واحد حمل عنوان (في سبيل الأخلاق). ففي قصيدة له يؤكد أن الحق إذا لم تؤيده قوة تحميه وتعززه فهو باطل، وفي ذلك يقول:
ألا إنَّ حقاً لم تؤيده قوة فذلك في شرع السياسة باطلُ
فلا تنبسط كفاك للحق طالباً إذا لم تُفجَّر من يديك القنابلُ
وفي قصيدة أخرى يدعو إلى مكارم الأخلاق والتخلي عن الشر، فالخير خير زوادة للإنسان بعد رحيله، كما يقول:
تخلّ عن الشر واعمل لما يعود بخير إذا ما رحلتا
وَهَبْك بلغت السماء علاءً وأدركت كل الذي قد أمِلتَا
أليس قصارى الحياة انقطاعاً وأنك تجزى بما قد عملتا
بعد حياة مملوءة بالعطاء الأدبي رحل أحمد عبيد بتاريخ 13 آذار 1989 عن سبعة وثمانين عاماً، أمضى معظمها في خدمة الفن والأدب والثقافة.
العدد 1154 – 8-8-2023