الملحق الثقافي- وفاء يونس:
لا يغادر أدونيس حقل الكتابة نقداً وتنظيراً وإبداعاً, وهي كما يقول مهنة العمر والقلق والحياة, عبر عن ذلك في كل ما قاله وكتبه, وقد اشارت ساره العمري إلى أنه في حضوره الأول بالمملكة يحل الشاعر والمفكر حين حل « ضيفاً على أكاديمية الشعر العربي بدعم من هيئة الأدب والنشر والترجمة، وفي المحطة الأولى من جولته الثقافية بمدينة الرياض.
وقد ألقى محاضرة بعنوان :(الشعر والحياة)، متحدثًا فيها عن أهمية الكتابة لديه يقول أدونيس:» أتخيل أن صديقًا قارئًا يهمس في أذني قائلًا أشك في أن تكون قادرًا على كتابة ما تريده حقًا وإذا كنت لا تقدر أن تكتب ما تريده حقًا فما جدوى كتابتك وما يكون الكاتب الذي لا يقدر أن يفصح عن مكونات جسده وفكره «.
ويكمل حديثه عن ذلك الصديق فيقول:» يكاد هذا الصديق أن يفهمني فكيف أرد أو أدافع خصوصًا أن الكتابة مهنتي وعملي فماذا أفعل إن لم أكتب صدقوني إنني موجود وحاضر في العالم بوصفي كاتبًا وبقوة الكتابة فما سيكون معنى الاستمرار في الحياة إذا انسلخت عما أوجدني ومنحني حضوري الفعّال أعرف أن هذا الصديق يشير إلى المقبول في الحياة لي وفي الفكر العربي وفي الجسم العربي المكبوت بالضغط التاريخي والاجتماعي والسياسي والمذاهب والصراعات، كأنه يقول إن ما تكتب عنه ويكتب عنه غيرك لا يشكل مما يتطلب المواجهة والكشف إلا شيئًا يسيرًا ، هناك عالم آخر واسع وغني لكنه مطموس ومحجوب وأنت لا تقول شيئًا مهمًا ما لم تدخل فيه ما لم تخترقه وتفجره «.
وأكد على أهمية المشاركة الثقافية بقوله :»أنت لا تشترك في محو الثقافة وحدها وإنما تشارك أيضًا في محو اللغة اليوم تزداد علاقة اللغة بالأشياء بلا نهائية ، فالمكان مادة وفضاء نسبي ، الزمان و البنية الذرية للمادة الموجة في الطاقة هذا كله مما يتعذر التعبير عنه بالكلمات فهناك انفصال يتزايد بين اللغة والعالم كأن الكلمات التي نتداولها ضائعة إنها الماضي الذي تجاوزته تفجرات الحاضر حركةً وتغيرًا لكنها في الوقت نفسه لا تزال مستمرة فيه وسائل بإذن أنساق ومؤسسات فهي لا تعبر عن الحضور الحي ولا عن هواجسنا المستقبلية وإنما تعبر عن وهم استمرارنا في الوجود بعبارة ثانية لم يعد لكلماتنا معنى هكذا نتكلم أو نكتب لكي نضرب الكلمة بالكلمة لكي نكفنها أو لكي لا نقول شيئا ما قلته الآن «.
وقد ذهب أدونيس لأبعد من الكتابة فتحدث عن شيخوخة اللغة :»أننا نعاني إبداعيًا حالةً عسيرةً من الركود مع ذلك ليست المسألة في الشيخوخة بذاتها فجميع الحضارات تشيخ وإنما المسألة بالنسبة إلينا هي في أننا على النقيض من معظم الشعوب نرفض الاعتراف بهذه الشيخوخة ورغم هذا كله أجد اللغة وحدها المكان الحي الحُّر اللانهائي في حياتي إنه الحضور الغامض اللغة في هذا المكان العربي الواسع الغني المتنوع والمتعدد إنما هي وطني مفتوحًا على الجهات كلها وعلى الآفاق جمعاء هي سكني وسفري في التاريخ الذي تنزفه هذه اللغة العظيمة وفي المستقبل الذي تكتنزه.
موسيقا الحوت الأزرق
بالعودة الى كتابه المهم جدا موسيقا الحوت الازرق, يبحث في القضية نفسها إذ يرى أنه والفكرية في العالم العربي كما يلي: كل يكتب وينشر لا لكي ينقد غيره وحسب وإنما لكي ينقضه أيضا ويتم ذلك في أفق سياسي ـ ايديولوجي محض.
وهذا مما يتيح القول بأن الكتابة العربية تتحرك في غاية من الأسلحة كأن هذه الكتابة خنادق يملؤها مسلحون يتصارعون حتى الموت ولكل في هذا الصراع خططه واحلافه. ولا ترتبط رسالة الكتابة هنا بإرادة الكشف المعرفي بقدر ما ترتبط على العكس بإرادة التغلب والسيطرة كأن هذه الكتابة بتعبير اخر حرب بين أشخاص واحلاف وجبهات لذلك حين نحلل هذه الحرب ووساذلها وأهدافها نرى انها تدور حول قضايا صغيرة لا علاقة لها بالمعرفة او بالابداع.
ولو طرحنا هذا السؤال: لماذا تكتب؟؟ لما سمعنا غير هذا الجواب: اكتب لكي اقتل خصمي وهو جواب تنطق به حركة الكتابة ذاتها.
ما قدمته اضعه الان جانبًا او بين قوسين واسأل لماذا تكتب؟؟ ألكي نحول الأبجدية إلى أسلحة؟؟ ألكي يدحض كل منا رأي من يخالفه او من يكرهه؟؟ ألكي يقرأنا قارئ واحد أو الف قارئ او مليون قارئ ألكي نجعل من الكتابة سلعة؟؟؟؟
وهذه اللغة (التي أعطيت لنا او التي ابتكرناها) لكي نكتشف أنفسنا والعالم ونزداد فهما لأنفسنا وللعالم هذه اللغة التي بها نرى ونحس ونعقل التي بها نتميز عن المخلوقات كلها كيف نجردها من هويتها الطبيعية والإنسانية ونشوهها ونقزمها ونحولها إلى أداة عمياء لحرب عمياء؟؟؟؟
كيف يحدث الا نهتم الا بالأشخاص وحدهم وان نهمل القضايا الكبرى ـ الظاهرة والخفية في العالم والواقع في الطبيعة وما وراءها في الإنسان والمجتمع؟؟؟
كيف يحدث ان تغمرنا الكتابة التي يحركها غير الحقد والكذب والجهل والضيق بحيث لا نكاد نرى كتابة يحركها الحب والجمال والحق والمعرفة؟؟؟؟؟
كيف يحدث ان يستولي على الكتابة كل ما هو جزئي محدود عدائي بحيث أننا لا نكاد ان نرى كتابة مأخوذة بالإنسان واسئلته الكبرى ـ اسئلة الحرية والمصير والعمل والابداع أسئلة الإقامة والمنفى أسئلة الأرض والكون؟؟؟؟
كيف يحدث ان لا يكون للمستقبل العربي وللصيرورة العربية اي مكان في هذه الكتابة العربية؟؟؟
ما قدمته اضعه الان جانبًا او بين قوسين واسال: لماذا نكتب ومن الكاتب؟؟؟
الكتابة اساسا رضاع اخر من ثدي الكلمات ثدي اللغة الأم واقول: رضاع لأقول ان الكتابة للإنسان فطرة ثانية واسأل:اذا كانت الكتابة فطرة وكانت صورة وامتدادا للكاتب أفلا نرى ان الكتابة العربية السائدة خيانة للابجدية للأم من حيث أن اصحابها يخونون الإنسان فيهم ثم أليست خيانة الأم خيانة للارض؟
كيف يحدث ان نجعل من الشيء الأكثر نبلا أعني الكتابة الشيء الأكثر بشاعة. كيف يحدث ان نجعل من هذه القوة الأكثر إضاءة القوة الأكثر ظلاما؟
وأسأل :لو أردنا ان نقوم علاقة لغتنا كما نمارسها اليوم بالفكر والانسان فما تكون قيمة فكرنا وما يكون الإنسان العربي وماتكون اللغة ذاتها؟
العدد 1155 – 15-8-2023