الثورة – عمار النعمة:
لا شك أن الكتابة عن رجل بحجم الروائي حنا مينه مهمة صعبة وشاقة، فالراحل صاحب تاريخ حافل وكبير من الإبداع الروائي والقصصي الذي ما زال بيننا وعلى ألسنتنا، وتاريخ من النضال والكفاح، وتاريخ من الكتابة والعطاء والحياة.
حنا مينه الذي مرت ذكراه مؤخراً أجمل ما يمكن الكتابة عنه هو أعماله الباقية في وجداننا، فلا يمكن أن ننسى نحن جيل الثمانينيات رواية “الياطر” التي كانت قائمة على تجاذبات الأحلام بين الغابة والمدينة، ورواية “المستنقع” التي تغوص في الريف، الفقر، السياسة الفاسدة، و “نهاية رجل شجاع”، “المصابيح الزرق” اللذين تحولا لأعمال درامية وقد تابعناهما بشغف كبير.
منذ سنوات عندما زرته في منزله الكائن بحي مساكن برزة لم أكن أتوقع يوماً بأنني سأقابله وأجلس معه وأحاوره وهو الذي تربينا على اسمه ورواياته، المسكون باللغة والسرد والثقافة العالية، كما أنني لا أبالغ بل أجزم أن الحديث الذي أجريته معه كان من أكثر الأحاديث الصحافية التي أجريتها متعة وصدقاً وصفاء فقد كان محدثي يصمت أحياناً، ويسترسل أحياناً أخرى كأنه يخاطب نفسه أو يسترجع بعض الصور من الذاكرة المترعة بعذابات الفقر والرحيل ومواجهة الأقدار.
عندما سألته عن البحر قال لي: “إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب”.
وأضاف مينه واصفاً نفسه بـ أنه “كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيلهم”.
حنا مينه أحد أهم الروائيين في سورية والعالم العربي، ترك خلفه ما يزيد على 40 رواية، ومجموعة قصصية، ليساهم بتشكيل ملامح الرواية السورية على مدى نصف قرن من الزمن، نال فيها جوائز أدبية عديدة داخل سورية وخارجها.
لم يتخلَ عن المرأة في كتاباته يوماً بل كان مناصراً لها، حتى أنه قال ذات يوم لو خيروني بكتابة شاهد على قبري، لقلت لهم اكتبوا هذه العبارة، “المرأة.. البحر.. وظمأ لم يرتوِ”.
في (بقايا صور) الجزء الأول من ثلاثية السيرة الذاتية للروائي حنا مينه التي كتبها في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، كان البطل والراوي فيها هو حنّا نفسه حين كان طفلاً، وقدم ما جرى مع عائلته في الحياة من الفقر والعوز، بصبغة إنسانية صارت جزءاً من شخصيته، ولهذا لم يتغير حنا مينه حين وصل إلى الشهرة ووضعته في مكانة كبيرة، بل ظل مواكباً لتفاصيل حياته المرّة لا بل في كثير من الأحيان كانت وقوداً لرواياته.
في (بقايا صور) قدم ثلاثة نماذج للمرأة المفعمة بالإنسانية والقابلة للتعميم والتي تجسد حالة البؤس والشقاء العامة.
أيضاً “أم حنا” حافظت على أسرتها وتحملت غياب الأب المتشرد وإخفاقاته ونزواته وهي تمثل طاقة روحية لا تهون أمام المحن والمصاعب، أما الصوره الأخرى فهي الأرملة التي مات زوجها وتركها عرضة لقسوة الحياة ما وضعها في حاله مواجهة ظالمة مع مجتمعها فرماها بأقصى التهم وحولها إلى امرأة تبيح جسدها تحت وطأة الظلم والقهر الاجتماعيين.
رحل حنا مينه، ورحيله خسارة فادحة للثقافة السورية والإنسانية عامة، لكن شمس إبداعه تتألق إشراقاً وتوهجاً في سماء الوطن، رحل ابن البحر والإنسان الذي خلّد بأدبه الأحداث الوطنية والتحولات الاجتماعية الكبرى، ستبقى خالداً في قلوبنا وقلوب أبنائنا من بعدنا، فما أسسته من مكانة أدبية مرموقة لن يُنسى ولن يضيع، كيف لا وأنت شيخ الرواية العربية!!.