الثورة – هفاف ميهوب:
عذراً “حنا مينه”.. عذراً أيها الأديب الذي كتب أفراحنا وأحزاننا، كفاح شعبنا وبطولات رجالنا.. عذراً أيها البحّار الذي أخذتنا في رحلاتٍ إنسانية ونضاليّة وإبداعية، عَلّمتنا كيف بإمكان الأديب أن يجوب بقارئه الحياة، فيجعله يغوص وإياه في أعماقها، ويخوض كلّ معاركها، دون أن يضطرّه لمغادرة مكانه وكتابه.
عذراً أبها الإنسان والبحّار والأديب.. لم ننفّذ وصيّتك، بألا نحزن أو نبكي، أو نعزّي بأيّ شكلٍ من الأشكال..
لم ننفّذها، لأن قراءاتنا باتت حزينة، تبحث عنا فلا تجدنا، في رواياتٍ لم يتحدّى أو يتخطّى كتّابها المعاناة، كما تحدّيت وتخطّيت معاناتك، وقد أشاحوا وتجاهلوا قولك في وصيّتك:
“كلّ ما فعلته في حياتي معروفٌ، وهو أداءُ واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرّست كلّ كلماتي لأجل هدفٍ واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، بعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف”..
نعم، لقد تجاهل الأدباء قولك هذا، وجعلونا لا نقرأ أنفسنا في كلّنا، كما جعلتنا نفعل، ولا نخوض معارك الحياة، فنتغلّب على معاناتنا بقراءاتٍ جميلة، لا تحتاج أن تتجمّل.
لم نعد نرى رؤيتك، بأن هناك “زهرة ناريّة ينبغي أن تتفتّح كلّ يوم، لا يلوي بها عاصف الريح، ولا تيبّسها نفثة إبليس، ومن المستحيل أن تموت”. لم نعد نرى ذلك، ولا حتى “كنز الثقافة الذي تصير إليه كلّ الكنوز، في زيادةٍ دائمة..”..
لو تدري أن “حكاية بحّار” اليوم، لم تعد تحدّثنا عنك، ولا عن جبروت بطلك في “الشراع والعاصفة”.. لا تحدّثنا إلا عن جنون العواصف التي أطاحت بالأخلاق والإنسانية والقيم والثقافة.. العواصف التي شلّعت ما تبقّى من أماننا وآمالنا، واقتلعت حتى الآهات من حناجرٍ، باتت لا تجيد القراءة باستمتاع، أو حتى الكتابة بإبداع.
لم يعد هناك من يصفُ معاناة المقهورين، والكادحين والمتعبين، في سعيهم لتنظيف “المستنقع” الذي يحيط بهم، ويُهدّد وجودهم، بما فيه من قاذوراتٍ وأوبئة تسعى للفتكِ بهم، وهي نتاج جشع وحقدِ وأنانية الساعين لتلطيخ وتدنيس وجودهم.
فقدنا كلّ ذلك، ولم تعد “الشّمس في يومٍ غائم” هي الحلم المُنتظر، في زمنٍ إن أمطرت السماء فيه، أمطرت معها الحياة فجائع أغرقتنا، وإن سطعت الشّمس، وترجّينا أن تُمطر قليلاً، انتفضت الأرض وهاجت، فلفظتنا وزلزلت حياتنا..
لم نعد نريد رؤية “الثلج يأتي من النافذة” محمّلاً بدفء حكاياتك، ولا “المصابيح الزرق” تزيح ولو قليلاً من العتمة التي لم نكن لنشعر بها، لدى قراءتك..
لم نعد نريد إلا الاعتذار منك، لأننا لم نستمع ونتّعظ ونتعلّم من قولك:
“حين تواجهك العاصفة، لا بأس أن تبسمل، أن تبتهل، أن تصلّي، لكن هذا وحده لا يكفي. ينبغي أن يكون في صدركَ قلب، وفي رأسك عقل، وأن تحتفظ برباطةِ جأشك، وتثبت في المعركة.. تصارع حتى النفس الأخير”..