الملحق الثقافي-دلال إبراهيم:
في لحظة محورية من تاريخ الشعر، تعرض فيرجينيا وولف وجهة نظرها حول الشعر المعاصر وعلاقاته مع ماضيه ومع العالم الحديث الذي على عكس الرواية، يبدو أنه من الصعب للغاية دمجه مع الحياة.. هذا ما قالته في رسالة وجهتها إلى الشاعر الشاب جون ليمان John Lehmann ( رسالة إلى شاعر مبتدىء) (A Letter to a Young Poet) الصادر في عام 1932. حيث لم يكن في كتابها واضحاً ما إن كانت تشجع الشاب على إقراض الشعر أم أنها توبخه.. وتعتقد أن كل الأعمال المضنية من كتابة الرسائل وتحرير المقالات وإلقاء الخطب تقع على عاتق النثر، بينما يتغنّج الشعر بين وزن وقافية ليتقلص دوره في إضفاء لون جمالي على الحياة دون أي استخدامات ذات نفع.. وترفض وولف الالتفاف حول الانهزامية السائدة وتتنبأ بأن شعراء قرنها سيعرفون حمل شعلة فنهم عالياً.. ومع ذلك، فإن هذا لن يقلل من الصعوبات التي سيتعين عليهم التغلب عليها.. وتصر على أن الانغلاق على الذات، أي العالم الداخلي للشاعر، هو هروب عقيم لن يتيح الفرصة بتحقيق التجديد الضروري للشعر.
ويناقضها من جانبه المفكر الألماني مارتن هايدغر الذي أقر بسمو الشعر قياساً إلى باقي أشكال التعبير الإنسانية الأخرى بما فيها الفلسفة، يقول: «الشعر طريقة من طرق تصميم الحقيقة».. وحتى أنه دعا إلى نسب الشعر لكافة الفنون، لأن كل تلك الفنون تتضمن فعل الخلق والإبداع.. وهذا ما تعنيه مفردة poiemata أي الشعر في اللغة اليونانية والمشتق منها مفردة Le poème.. وحتى دعا إلى تحرير الفلسفة من اغترابها، وجعلها تقدم الفكر على طبق شاعري، ليكون القول الشعري هو « الصورة الأولى للفكر».. وترجم ذلك باعتماده على الكثير من قصائد الشاعر الألماني هُلدرين في الكثير من نصوصه الشعرية. فالتجاور بين الفكر والشعر كفيل بإضاءة ما سكتت عنه الفلسفة، وتمكنها من الوصول إلى الحقيقة عن طريق الفكر المقيم في العمق الشعري.. منطلقاً من فكرة أنّه إذا كانت الفلسفة تقدم ذاتها باعتبارها خطاب العقل بامتياز، فإنّ أسمى فعل للعقل، هو الفعل الجمالي، الذي يعتبر الشعر من أسمى تجلياته.. لذا يتعين على الفيلسوف أن يمتلك من القوة الجمالية مقدار ما للشاعر، فالشعر مربي الإنسانية.
وأهم ما يميز «قراءة» هايدغر للنص الشعري هو الابتعاد عن كل منطق إسقاطي، يفرض على النص أطرًا ومحددات قبلية، وبدلاً من ذلك الاقتراب من روح النص والإنصات لنبضه، وإفساح الفرصة له لينكشف.. فالتحدي الكبير الذي يواجهه كل تأويل مفترض للنص الشعري، في نظر هايدغر، هو أن يتوارى خلف حضوره الباذخ والخالص.. وبعبارة استعارية، «أن يصير أشبه بتساقط ندف الثلج فوق الجرس».. ويعتبر أن الإخفاق الكبير لأي قراءة مفترضة لقصيدة ما، هو أن تحجب عنّا حقيقتها وتبعدنا عنها.
ومما لا شك فيه أن الشعر ليس بناء هندسيًا وحسب، بل لابد أن يشعر المتلقي بحيوية النص ونبضه وروحه.. لكن الكلام يضل فضفاضاً وسائباً إن لم يستند إلى معايير موضوعية.. وهذا ما حرص عليه الشاعر الفرنسي رينيه شار الذي يعتبر من أزهد الشعراء بالتكريمات الرسمية والألقاب، وقد عمل بشراسة لكي لا يمنحوه جائزة نوبل لأنه يرى أن « الشعر فوق كل الجوائز، ولا ينبغي تلويثه بالجوائز أيا تكن «، أي إبراز مكانة الجمال في متن القصيدة، ضمن القيم الأساسية التي تتحكم بالوجود البشري، والجمال لا يقصد به ذلك الترف الارستقراطي، أو مذهب الفن للفن فالجمال يعني له: الحب والحرية والحقيقة وحتى الأخلاق. وربما كان معناه هو الطيبة الداخلية للإنسان والبهجة.
وإلا فقد يستخدمه البعض سلاحاً فتاكاً ضد الشعراء.. فيقولون « هذا نص جميل وصور بديعة، وفيه بساطة وسلاسة ومجاز، لكنه يفتقد إلى الروح والعاطفة والحياة والعمق».
بعض الشعراء يصنعون صوراً جميلة ومجازات معتبرة ورغم ذلك لا تجد فيها شعراً، فاللغة الشعرية ليست صوراً ومجازات فقط، بل لا بد أن تكون مشحونة بانفعال شعري وملتصقة بوعي ووجدان وحواس الشاعر، والانفعال الشعري هو أساساً موهبة، هذا الانفعال الذي ينتقل إلى القارىء ويحدث ما يسمي بالاثر الشعري، أما الذهنية وحدها فلا تنتج شعراً، الذهنية بالأساس تصور فكري عقلي بحت، يخاطب العقل، أما الشعر فيخاطب العقل والقلب معاً، يحول الفكرة إلى عاطفة، الذهنية هي أكبر عدو للشعر بكل أشكاله.. الشعر جنون ينظم فوضى الألوان في الحياة، ويهدىء صخب الضمائر ويخرّب عقلانية اللغة.. الشاعر هو صوت العاصفة، يعبر عن استجابة تناسب لا معقولية السلوك البشري، إنها الموهبة والحس الجمالي، ولو أن الشعر اعتمد فقط على امتلاك الأدوات لأصبح مجرد صنعة.
فيما يُعرف رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد الشاعر بأنهُ « حالم يقظ يحظى بقبول المجتمع «، ثمّةَ إشارة غير بريئة، ربما، في قول فرويد، فشخص يعيش أحلام يقظته، طوال اليوم، ثم يجد تسامحاً وقبولاً من قبل أشخاص ورموز، أو من قبل المجتمع يعني هذا أنه خارج السياق المنطقي والمعقول لكيفية العيش في المجتمع، وبالتأكيد، هنا لا تكمنُ عظمة واستثنائية الشاعر.
الشاعر كينونة منفلتة من سكة الحياة، يملك عيوناً للرؤية لا يملكها المجتمع.. يرى الشاعر العالم والمجتمع عبر عدسة خاصة به، مكانها لايكون في العينين بل يتموضع في اليقين المعذب المحترق بلهب العالم وقضاياه، وهذا اليقين غير المؤمن بسكة، كالصراط يسير عليها المجتمع، يختار له زاوية في ضمير الكون ويطل من خلالها على حرائق أبدية لا تريد أن تخمد أو تنطفىء، وفساد لا يغتفر.
الشعر ، كفعل كتابي خلاّق له «هويته «،يحمل بيديه فأسه، لتقويض أخطاء الواقع وإنشاء واقع مغاير، حتى أنه يستعين بالوهم كي يؤسس الواقع، يرمم خراب الروح والوحدة والعزلة والقسوة والقضية، ويعطي للزمن سيرة أخرى..الشعر مثله مثل كل أنواع الكتابة احتجاج، والشعر بالاحتجاج ليس خطاباً سياسياً مباشرًا ولا حقوقياً معلناً، ولا ثقافياً على كم وحجم مكتسبات الشاعر ، بل هو خطاب داخل خطاب، وتحويل مستلزمات هذا الخطاب إلى نص إبداعي، بأدواته المرتبطة به، كي يعتبر فناً جماليًا، أو لوحة مرسومة بأبجدية تعتمد الانزياح والمجاز، وتركب أخيلة متعددة.
العدد 1160 – 19-9-2023