تخون التعابير لساني ،وتضيع مخارج الحروف حيناً، لكنّها لا يمكن لها أن تخون روحي ، فما تجيش به النفس من إحساس قد تظهره التعابير اللسانية ، أو تظهر جزءاً بسيطاً منه فيما تبقى الانفعالات والقسمات والحركات وبريق العيون تختزن كامل المعنى الحقيقي لما تجيش به النفس من مشاعر وأحاسيس .
فالنفس تختزن أفراحاً أو جراحات أو آلاماً تسعدها أو تحرقها من الداخل لكن الصورة المنعكسة لا تظهر للخارج بالضرورة كاملة ، فكم من محب يخفي حبه وهو يعاني الوجد والحرمان ، وكم من محزون يقتله الألم وهو يتحرك بين الناس ناشطاً حريصاً على زراعة الفرح وتقديم العون ويرسم الابتسامات القادمة من قلب يتفطر أسى وحزناً ، وهو يحمل هماً دفيناً لا يظهره ولا يكشفه ، كي لا يفسد على الآخرين متعتهم وساعات فرحهم المسروقة !!؟
عرفته طفلاً صغيراً يداري أقرانه في المرحلة الابتدائية ، سواء في المدرسة أو الملعب أو الشارع ، يرضى بما يتركون له من مهمات ويقنع بحظه المتروك له من الأدوار في الألعاب دون أن يتذمر أو يرفض أو يطالب بحق أو يطلب حاجة موجودة لدى قرين آخر ،
والغريب في الأمر أن كلّ ذلك كان يتم بحالة من القبول والرضا ، لم تفارقه أبداً مهما فقد أو خسر من احتياجات الحياة اليومية.
وهكذا مضت الحياة به عاملاً مجداً مستعداً لتقديم المساعدة على حساب جهده وصحته ووقته ، لا يناقش طالباً ولا يتعب أو يمل ، مشكلاً حالة من التساؤلات المستمرة على ألسنة عارفيه في كلّ مكان ،
وقد كنت وغيري من معارفه نسعى لتقليده مراراً دون نجاح ودون نتيجة نحصلها في مساعينا لذلك ، فسلمنا بتلك الحقيقة ظناً منا أنها هبة إلهية لا ينازعه فيها أحد ، وأن السعادة تغمر قلبه دائماً ، لأجالسه طويلاً في ليلة شتاء عاصفة رأيت الدموع تنهمر من عينيه وسط نشيج متقطع يحمل حزن سنوات طويلة من ضغوط لم يرها أحد ، ولم يرد هو ذاته أن يظهرها للناس .
كانت تلك لحظة اعتراف وبوح بما تخفي جوارحه من أحزان حمل عليها سعادة الآخرين ، معتقداً اعتقاداً راسخاً أن نفسه هبة خير ومحبة وقربان لجوهر الإنسانية .

السابق