بابلو نيرودا: تعبت من كوني إنساناً

الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:
في 23 أيلول المنصرم مرت الذكرى الخمسون لوفاة الشاعر التشيلي بابلو نيرودا. وتخليداً لذكرى الشاعر أصدرت دار غاليمار الفرنسية مجلداً (Quatro) جمعت فيه مجموعة قصائده التي كتبها خلال الأعوام الممتدة بين (1904-1973) أي يغطي المدى الكامل لحياة الشاعر الحائز جائزة نوبل في الأدب عام 1971، والذي أعلن في عام 1966 قائلاً: «لطالما أردت أن يرى الشعر يدي الإنسان. ولطالما أردت الشعر الذي يظهر بصمات أصابعه. شِعر من طين، حتى يغني الماء هناك. قصيدة خبز ليأكلها الجميع.» يتضمن هذا المجلد المؤلف من 1500 صفحة، والمستند إلى عنوان يعود إلى عام 1933، خيارات صارمة ضمن أعمال له لا نهاية لها. إنه يسمح لنا بإلقاء نظرة غنية ومتنوعة على ما كان مسارًا للإنسانية والمحن عاشها الشاعر طوال فترة حياته خلال القرن الماضي عندما عرّف بابلو نيرودا نفسه بأنه «شاعر المنفعة العامة» وقام بالدور بامتياز. وبسبب الحرب الإسبانية فرضت السياسة نفسها عليه منذ وفاة صديقه الشاعر الإسباني غارسيا لوركا، وكان قد التقى به في بوينس آيرس، قبل مدريد، وقد كتبا وتعاونا، حيث ألصق أحدهما صورته على نص الآخر، وأصبحا أصدقاء. وبعد فصله من مهامه القنصلية بسبب التزامه الجمهوري، على إثر محاولة نيرودا من باريس تهريب اللاجئين إلى تشيلي ممن كان يعيش في إسبانيا زمن الحرب الأهلية فيها. وبالتالي تشعبت مواضيع أعماله وقضاياه، ولم تعد تقتصر على النضال الشيوعي في تشيلي، إلى جانب صديقه الرئيس سلفادور الليندي طوال الحملات الرئاسية المتعاقبة؛ صار يتحدث نيرودا الهارب (كان الهارب هو عنوان إحدى مجموعاته)عن العالم كله الخاضع للحرب الباردة.
بينما في رسالة وجهها إلى الكاتب الأرجنتيني هيكتور إياندي وكان حينها يشغل نيرودا منصب القنصل الفخري في آسيا يقول فيها: «يجب على الشاعر ألا يمارس نفسه، لقد حصل على تفويض، وهو اختراق الحياة وجعلها نبوية: يجب على الشاعر أن يكون خرافة، كائن صوفي.»هذا الشاعر الملهم المنوط به مهمة مقدسة هو أيضًا تقع على عاتقه مهمة الضجر الوجودي والعزلة غير القابلة للاختزال، والتي تتلخص في هذا السطر من قصيدته «التجول»:
(ويحدث أنني تعبت من كوني إنساناً).
أي إن فكرة الإلهام والشعور بالعزلة لديه كانت تسيران معًا، ونفس الحال كرسها لاحقاً في العمل والالتزام لديه. وهذا يقودنا للقول إن قوة شعره تكمن في محافظته على ما كان يعبر عنه الدم، وهي الكلمة التي تستحوذ وتتردد في معظم قصائد نيرودا، من آلام وحروب أهلية عاشها الشاعر. بحيث جعل من العالم امتداد واسع لتشيلي بلاده.
ولذلك قد لا يجد المترجم صعوبة في ترجمة قصائد نيرودا، لأنها قصائد أصيلة، تحاكي الهموم البشرية دون تكلف أو زخرفة لغوية، تلك القصائد التي كُتبت في جغرافيات مختلفة لكنه كان أينما حل في سفره نجد شعره واضح فيه اتجاهاته ومعالمه المتمثلة في رفض واستنكار الظلم الذي يطول الإنسان. ليصير من أولئك الشعراء القادرين على تحويل لحظة من الزمن إلى لحظة تستحق حنيناً لا يطاق حسب وصف ميلان كونديرا. لكن شعره الجميل هذا كان يحمل الأفكار العالية أيضاً، شعر له نقاء خالص، لأنه حمل همومه التي تشغله وعاشت معه طوال حياته، تلك الهموم التي ترتبط مع جوهر حقوق الفرد وإمكانية تحققها.
كتبت أشعاراً بسيطة
لكل الناس
وكي لا أموت
اشتهر صوت بابلو نيرودا، ببضعة عناوين من مجمل أعماله الشعرية الواسعة: عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة، وقصائد المساكين، وبالطبع الأغنية العامة. وقد حقق هذا العمل، الذي نُشر عام 1950 وترجم على الفور، نجاحًا عالميًا مبهرًا باستثناء إسبانيا الفرانكوفونية، حيث تم حظر نيرودا فيها، ولم يُنشر إلا في عام 1976. إنها قصيدة ملحمية ذات نفس قوي، فريدة من نوعها في اللغة القشتالية في ذلك العصر. إنه أول عمل في ذلك الحين يحاول احتضان تاريخ شبه القارة الأميركية بأكمله، ودمج عالم ما قبل الإسبان وعالم ما بعد الاستعمار في نفس الشعور.
هذه المجموعة (الأغنية العامة) خرجت إلى النور» كصرخة من غضب مثل الجمرة.» كما يصفها نيرودا. وكرست نيرودا كشاعر عظيم غارق في أوقات مظلمة. بالنسبة للشعب المغدور، فهو صوت الجميع ضد الخوف والصمت. لم يتراجع بابلو نيرودا أبدًا عن الالتزام، فهو ليس محايدًا. وبالفعل، خلال الحرب الأهلية الإسبانية، استأجر سفينة شحن «وينيبيج» لإنقاذ الجمهوريين المنكوبين من مواطني بلاده تشيلي.
ولكن الشعر لم يكن تعبيره الوحيد فهو قد عمل سياسياً، إذ كان السياسي الذي يحمل نقاء الشاعر والشاعر الذي تشغله هموم السياسي، ففي حياته السياسية التي لم تخلُ من الشعر والاقتراب من مصائر الناس، وقف مع الثورة والاستقلال والتحرر من العبودية، ومارس احتجاجه على الطغاة واستنكر وأدان ما يقومون به من تشريد وقتل وتجويع.
ووجد نفسه مستجيباً لكل ما فيه نصرة للإنسان المسحوق قائلاً:
من هم الذي يتألمون؟
لا أعرف إلا أنهم جزء مني.
فالأصل في نيرودا ليس شعره بل إنسانيته وما الشعر إلا محاولة صياغة شكلاً خارجياً لهموم الداخل. فهو عبر شعره جمعته علاقة حميمية مع كل حرّ في العالم، حيا نضالهم واستطاع أن يقول ما يريد قوله: التعبير عن مظالم الإنسان.
غنيت في تلك الأيام ضد الجحيم
ضد ألسنة القيم المشحوذة
ضد الذهب المغمّس في الآلام.
ومؤخراً وفي سياق هذا العام، قدم فريق دولي من العلماء نتائج تحقيق جديد، يكشف بشكل خاص عن وجود بكتيريا سامة في الحمض النووي للشاعر، وبذلك فقد حلوا واحدة من أحلك الألغاز في تاريخ تشيلي، بعد مرور نصف قرن على وفاته حول سؤال: هل اغتيل السياسي والشاعر والحائز على جائزة نوبل في الأدب بابلو نيرودا على يد نظام بينوشيه أم لا؟
تقول الرواية إن بابلو نيرودا دخل إلى المستشفى إثر إصابته بسرطان البروستاتا بعيد انقلاب بينوشيه الذي أطاح بحكم سلفادور الليندي ووفاة الأخير بأربعة عشر يوماً. وكان ينوي بعد خروجه من المشفى الهروب إلى المكسيك وقيادة المعارضة من هناك. ولكن وحسب شهادة سائقه التي أدلى بها لصحيفة اومانيتيه الفرنسية عام 2013 يقول «بعد مغادرتي وبعض أصدقاء الشاعر المشفى لبضع وقت بغية جمع كتبه عدت لأجد نيرودا بوضع غير طبيعي، شكى لي أنه يشعر أن جسمه يشتعل حينها أرسلوني لشراء أدوية له_ ونحن ضمن مشفى!!؟؟- وسرعان ما فارق الحياة. أما السائق وبعد اعتقاله وتعذيبه حينما اعترض وشكك بوفاة شاعره. ودحضت التقارير السابقة لنتائج التحقيق الأخيرفكرة أن نيرودا قد توفي نتيجة تفاقم حالته المرضية. مؤكدة أن الشاعر قد تعرض لعملية اغتيال سياسي.
ولكن وللأسف، فإن كانت نتائج التحقيق في وفاة نيرودا ستثير زوبعة وغضباً لدى أبناء الشعب التشيلي، فقد استبقوها بتلطيخ صورته منذ عدة سنوات لدى الرأي العام. وذلك حينما اقتطعت حركات نسوية مقتطفات من كتاب مذكراته (أعترف أنني عشت) يعترف فيها باقترافه عملية اغتصاب، ومطالبتهن بإعادة تقييم مكانة أعمال الشاعر ضمن سياق الثقافة التشيلية.
                     

العدد 1163 –  17-10-2023

آخر الأخبار
صندوق التنمية.. أفق جديد لبناء الإنسان والمكان "صندوق التنمية السوري"..  أمل يتجدد المجتمع المحلي في ازرع يقدم  350 مليون ليرة  لـ "أبشري حوران" صندوق التنمية يوحد المشاريع الصغيرة والكبيرة في ختام المعرض.. أجنحة توثق المشاركة وفرص عمل للشباب مدينة ألعاب الأطفال.. جو مفعم بالسعادة والرضا في المعرض في "دمشق الدولي".. منصات مجتمعية تنير التنمية وتمكن المجتمع كيف يستخدم شي جين بينغ العرض العسكري لتعزيز موقع الصين ؟ من بوابة السيطرة على البحار.. تركيا تصنّع حاملة طائرات تتجاوز "شارل ديغول" التداول المزدوج للعملة.. فرصة لإعادة الثقة أم بوابة للمضاربات؟! مواطنون من ريف دمشق: صندوق التنمية سيكون سيادياً سورياً الوزراء العرب في القاهرة: فلسطين أولاً.. واستقرار سوريا ضرورة استراتيجية عربية أهالٍ من درعا: إطلاق "صندوق التنمية السوري"  فرصة لإعادة الإعمار "صندوق التنمية السوري".. خطوة نحو الاستقرار الاقتصادي والسياسي الأمم المتحدة تؤكد أن لا حل في المنطقة إلا بقيام دولة فلسطينية "التقانة الحيوية".. من المختبر إلى الحياة في "دمشق الدولي" تقنية سورية تفضح ما لا يُرى في الغذاء والدواء انعكاس إلغاء قانون قيصر على التحولات السياسية والحقائق على الأرض في سوريا حاكم "المركزي": دعم صندوق التنمية السوري معرض دمشق الدولي.. آفاق جديدة للمصدّرين