الملحق الثقافي- أيمن المراد:
وُلِدت المقاومة مع الإنسان، وظلت ملازمة له منذ نشأة الخليقة، لأنه مخلوق مقاوم بطبعه وفطرته لكل ما يحسبه عنصرًا يعمل ضده، إن كان هذا العنصر ينتمي إلى محيطه، وبيئته، أو كان من المجموعات الإنسانية أو الطبيعية الأخرى.
وبما أنّ اللغة كانت ولا تزال تشكّل إحدى أدوات التواصل والمواجهة؛ فإنّ الإنسان استخدمها كعنصر مؤثّر في الدفاع عن النفس.. ونجد في التاريخ شواهد عدة لتأثيرها، وقد تحولت فيما بعد إلى أدب وشعر وخطابة وغيرها.. لذا من الممكن القول إنّ أدب المقاومة هو التعبير من خلال اللغة التي استحالت نصًّا ومنصةً للدفاع عن الإنسان في معركته مع الآخر المعتدي، مع تعدّد هذا الآخر وتنوّعه وتلوّن صفاته.. لذلك لا يخرج الموضوع عن هذا المسار التاريخي التكويني.
لم يتوصّل الباحثون بعد إلى تعريفات أو محددات لغوية واصطلاحية مؤطرة تعرّف أدب المقاومة، لذا قد نستطيع القول، إنه قد يكون كل كلمة ونص وقصيدة ورواية ومقالة وأغنية وموقف ثقافي وفكري وأدبي في مواجهة المحتل والظالم وأعوانه.
لا يخرج الأدب المقاوم أو الملتزم عن هذا المسار، فهو قرين الوعي، الوعي الذي يلازم الكاتب والمبدع لأهمية تأريخ المراحل، والدفاع عن الأوطان والأرض والإنسان من خلال النص المنفتح على المستويات المختلفة، والذي يواكب العمل العسكري إن وجد، ويواجه الحرب الثقافية التي تهدف إلى محو الذاكرة، ويعمل على تشكيل مفاهيم مختلفة تواجه ما يحمله المحتل من أفكار مسمومة تخدّر الجماعة، وتوقع بها.
يرى بعض الأدباء أن المقاومة هي عملية رفض الظلم والاحتلال، ورفض كل ما يتفرع عنه من مشاريع خبيثة ضد الأمم والشعوب، وبجميع الوسائل المتاحة بما فيها الوسائل العسكرية، والسياسية، والإعلامية، وغيرها وبأي درجة ممكنة، وأعلاها درجة اليد، وهو الجهاد بالنفس والمال في سبيل الله، وأوسطها اللسان لفضح المحتلين الظالمين، وأذنابهم من العملاء، وفضح مخططاتهم الخبيثة، ونياتهم العدوانية، بحق الأمم والشعوب، وأدناها القلب، وهو كره المحتل، وتعد حركة المقاومة هي جميع الأعمال الاحتجاجية التي تقوم بها مجموعات ترى نفسها تحت وطأة وضع لا ترضى عنه.. فالشعوب تقاوم من يحتل أراضيها، وتختلف الأساليب من العصيان المدني إلى استخدام العنف والعنف المسلح وما بينهما من درجات.
الدكتور أحمد موسى الخطيب يقول عن أدب المقاومة في كتابه «وهج القصيد، دراسات في الشعر العربي المقاوم»: «لقد عرف حقل الدراسات الأدبية مصطلح «الأدب المقاوم» في النصف الثاني من القرن العشرين، ولعله بدأ يتبلور وينتشر في الستينيات من القرن ذاته، حيث بدأنا نقرأ ونسمع مصطلحات، مثل «شعر المقاومة» و»شاعر المقاومة»، «وأدب المقاومة»، وكان المقصود أدباء فلسطين تحت الاحتلال وما ينجزونه، وأدباء فلسطين في مهاجرهم أيضاً، وهذا القصد أو الفهم يفتقر إلى الدقة، ويجافي الحقيقة، لأن الشاعر العربي المعاصر بعامة أسهم بدور كبير في مقاومة هذا الاحتلال البغيض، ومشاركته الشعرية في كل مناسبة على أرض فلسطين تشهد بذلك، كما كان للأدب العربي في لبنان بخاصة دوره في مقاومة الاحتلال في جنوب لبنان، وكذلك كان شأن الأدب – وما يزال – في سورية، ودوره مقدر في مقاومة الاحتلال في الجولان.. ويمكن التوسع في هذا المفهوم ليشمل مقاومة صور القبح، والظلم، والاضطهاد والتهميش على الأرض العربية، سواء ما كان تحت الاحتلال، أم غير ذلك، على هذا النحو، يمكن أن تندرج كثير من التجارب الأدبية العربية تحت مصطلح «الأدب المقاوم».
وكانت صورة البطولة والترميز إليها أو الخطاب الصريح والمباشر بمعانيها وتجاربها من التاريخ العربي أو التبشير بها على الرغم من نزف جروح الذات القومية هي الأكثر ظهوراً في شعر المقاومة من التصدي للعدوان الأجنبي أو احتلاله ونداء الثورة والتحرير والاستقلال والجلاء إلى إرادة حمل السلاح بأشكاله المتاحة إلى إشاعة تقاليد مواجهة العدو الخارجي والداخلي في آن معاً إلى تمجيد فعل البطولة ولرموز أبطاله وتصليب روحيتها في الوجدان الشعبي والوطني والإنساني العام والخاص من خلال المنظومات القيمية القومية والوطنية بطوابعها الإنسانية العميقة والشاملة مثل الفداء والشجاعة والصمود والإيمان بالنصر والتماسك والجهاد والأمل بالتغيير والمجابهة والحلم بالحرية والخلاص، أي إن التعبير الشعري المقاوم مواز للتعبير الشعري عن البطولة وتجلياتها في حياة العرب المعاصرين الذين واجهوا المصائب وكوارث العدوان من حين لحين على امتداد مراحل العصر الحديث.
أما غسان كنفاني فقد أصدر كتابين درس فيهما الأدب العربي في فلسطين، أولهما «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966»وثانيهما «الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968.»
وهو يكتب في مقدمة كتابه الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال.. ويقول «ولعلنا نشير إلى آخر تعريفات المقاومة ومفهوم أدبها قبل النظر في مفهوم شعر المقاومة وتطوراته»، وظهر ذلك في ندوة خاصة بالمقاومة، وقد أشار المشاركون فيها إلى التعريف الأشمل للمقاومة الذي اتسع ليشمل المقاومة النفسية والسياسية والاقتصادية، وغدت المقاومة رد فعل الهيمنة والاستبداد من جهة، ودفاع الكائن عن مجاله الحيوي الإنساني من جهة أخرى، وأضيف مشروع النهضة العربية إلى حركة المقاومة، لأنها منطلقات وطنية تزامنت مع المد الإمبريالي حتى داخلت علاقة العولمة بالمقاومة، وفهم أدب المقاومة إلى وقت قريب بأنه شعر البطولة، والبطولة في اللغة هي الغلبة على الأقران، ولطالما اقترنت بالقداسة والإجلال والإكبار، وتماهت مع طقوس الحياة الأزلية حياة وموتاً، وأخذت أبعاداً متعددة شديدة الاتصال بعمليات بقاء الإنسان حراً كريماً ضمن قومه ومحيطه، فالبطولة لا تقتصر على الطوابع القتالية والعسكرية والحربية، بل تمتد إلى قوة النفس وصفاء الروح وعمق الإيمان بالعزيمة على صون الوجود الذاتي العام والخاص، وهو فهم عريق في حياة العرب منذ القدم، وكما قال شوقي ضيف «ولكثير من أبطال الجاهلية دواوين تمتلئ بضجيجهم وبيان ما أنزلوا بأعدائهم من الموت الساحق الذي لا يبقي ولا يذر».
وعندما جاء الإسلام أخذ شعر المقاومة بعداً جديداً، فالشاعر لا يقاتل عن أحساب وأنساب ولا عن قوت ومال بل هو يقاتل عن عقيدة اقتنع وآمن بها، فيضحي بنفسه في سبيلها، ويجرد سيفه وقلمه من أجل نصرتها، فشعراء النبي صلى الله عليه وسلم – كعب بن زهير وحسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، لم يألوا جهداً في نصرة حملة العقيدة الجديدة ومحاربة أعدائها.
على أننا لا نعدم أمثال هؤلاء في عصرنا الحديث، حيث نجد شعراً كاملاً يستحق أن نطلق عليه شعر المقاومة، ومن هؤلاء الشعراء … الأمير عبد القادر الجزائري ومحمود سامي البارودي.. فالأمير عبد القادر الجزائري رب سيف وقلم كما يقولون، فقد قاتل الفرنسيين أكثر من خمسة عشر عاماً، وكان شعره تجسيداً حياً لتلك المعارك التي خاضها.
إن أدب المقاومة العربي في الأرض المحتلة يقدم لتواريخ الأدب المقاوم في العالم نموذجاً متقدماً في الحقيقة وعلامة جديدة نادراً ما استطاعت آداب المقاومة المعروفة في العصور الحديثة أن تحقق ما يوازيها في المستوى مقارنة بمهماتها الصعبة وشديدة التعقيد وظروفه التي لا تشابه بين ما لدينا من الأمثلة المعاصرة إلا ظروف المواطنين السود تحت حكم دولة جنوب إفريقيا العنصرية، بل تفوقها قسوة ووحشية أدب المقاومة وارتبط مفهوم شعر المقاومة بمفهوم الثورة، والثورة لم تعد رفضاً لإسرائيل فقط، وإنما نضال ضد سلبيات الواقع العربي، فمحمود درويش لم يعد يقبل كل ما هو عربي لأن قبوله سعي إلى الجمود، وهكذا نستطيع أن نقول إنه قد شارك في تثوير الواقع العربي.. ولقد تجسد مفهوم الدرويش للثورة بالعمل الفدائي الفلسطيني.
وظهر مفهوم المقاومة الثقافية بتعزيز قوى الذات الداخلية على أساس تعضيد الوعي بالتاريخ والانغمار بالوجدان الوطني وتصليب عزيمة النضال من أجل الوجود الحر والكريم والمستقل دفعاً لمعضلاته الكثيرة الناجمة عن العدوان الداخلي المتواطئ أو الخادم للعدوان الخارجي أحياناً، وصون الهوية القومية، ونشير إلى العناية بالمقاومة الثقافية في خضم المتغيرات الدولية المتسارعة والعاصفة لدى مضاعفات الهيمنة الامبريالية وتصاعدها للسيطرة على مقدرات العالم، وتداولت في هذا الشأن مفاهيم الحرب الثقافية والحرب الاقتصادية والحرب الإعلامية والحرب النفسية وأمثالها.. وتعاظمت مخاطرها مع تغييب الاعتراف بالتنوع الثقافي وحق الشعوب بالوجود.. وتماهي الفعل المقاوم مع الفعل الثقافي إلى حد كبير فما عاد العدو الأجنبي، يقف عند حدود الهجمات العسكرية والعدوان المسلح وإقامة القواعد في عمق الوطن العربي للحفاظ على أمنه وحماية مصالحه وتعزيز هيمنته وعلى رأسها قاعدة إسرائيل، ولكنه سيعمل من أجل الإجهاز على الكيان الحضاري والمقومات الثقافية، لأن هذه الإجهاز، هو بالفعل، التدمير الحقيقي للأمة والقضاء الحاسم على وجودها في العالم.
وتحدث أدونيس الشاعر الأديب الناقد عن قضية أدب المقاومة في كتابه «زمن الشعر» ولكن آراءه عن أدب المقاومة مختلفة عن آراء النقاد الآخرين، وهو رأي مغاير لآراء كثيرة سابقة، وينظر أدونيس إلى الشعر العربي في الأرض المحتلة على أنه رافد صغير في الشعر العربي المعاصر، بل رافد ثانوي، وهو امتداد لا بداية: امتداد لشعر التحرر الوطني الذي عرفه العرب طوال النصف الماضي من القرن العشرين، وهو ليس شعراً ثورياً.
ووقف أدونيس موقفاً مضاداً لآراء أخرى شاعت في زمنه، زمن كتابة كتابه – أي نهاية الستينيات وبداية السبعينيات – مجد أصحابها فيها شعر المقاومة، ومنها ما ورد في عدد مجلة الطريق الخاص بأدب المقاومة (1968)، وأشار أدونيس إلى رأي رضوان الشهال الذي رأى في أدب المقاومة «ظاهرة فريدة متميزة في الشعر العربي» وأنه – أي أدب المقاومة» ارتفع بوثبة جدلية رائعة البهاء، إلى المستوى الثوري الحقيقي»، حول هذا الموضوع ألف النقاد والأدباء كتباً كثيرة فيوسف الخطيب تحدث في مقدمة ديوانه «ديوان الوطن المحتل»، ورجاء النقاش في كتابه «محمود درويش: شاعر الأرض المحتلة»، وغالي شكري رأى شعراء المقاومة كشعراء المعارضة في كتابه «أدب المقاومة»، وحسين مروة يهدي كتابه «دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي» إلى زوجته التي أعانته على أن يكون شجاعاً في قول الحقيقة، وأن يكون شيوعياً أيضاً، ويقر بأنه في نقده يتبع المنهج الواقعي، ويخصص صفحات من كتابه يتحدث فيها عن أدب المقاومة.
وتخصص نجاح العطار وحنا مينة في كتابهما «أدب الحرب» (1976) حيزاً لدراسة أدب المقاومة الفلسطينية، ويكتبان عن أدب المقاومة الحربي، ولا يدرسان الأدب الثوري، إنهما يميزان بين أدب الحرب وأدب الثورة، فالأول يكون ضد الخارج، والثاني يكون ضد الداخل.
يقول الروائي والكاتب المصري سيد نجم: «إنّ أدب المقاومة تحديدًا، يتمثل في تجربتي الحرب والثورة، مع إذكاء مفاهيم وقيم الانتماء والهوية والحرية، وكل تجارب الدفاع عن الحياة الفضلى التي تعلي من شأن الإنسان.. إلا أن هذا التاريخ لم يُسَجَّلْ بعد بشكل كامل، فقد حرص الحكّام قديمًا وفي العصر الحديث على تسجيل تاريخهم الشخصي، فأرّخ لهم المؤرخون، وبدماء العامة من الناس، خطّوا سطور تلك الصراعات والبطولات بأسماء الملوك والحكام.. لذا تعدّ سمة المقاومة المرتكزة على الوعي الجمعي، السمة المركزة التي يمكن رصدها في تاريخ الجماعات والدول والأمم، بهدف بيان جوهر العقل والوجدان الفردي والعام خلال فترة زمنية محددة.. والأدب والفنون جميعها تعدُّ وسيلة ناجعة وقادرة على توطيد الذات الجمعية في مواجهة العدوان، وكشف المعتدي وممارساته الاضطهادية.»
العدد 1163 – 17-10-2023