د. م. محمد رقية
جاءت عملية طوفان الأقصى الأسطورية, التي قامت بها قوى المقاومة الفلسطينية في غزة هاشم , في 7 أكتوبر بعد يومٍ واحدٍ من الذكرى الخمسين لحرب تشرين التحريرية التي فاجأت العدو وأجهزة استخباراته ونظيرتها الأمريكيّة، بكل هول المفاجأة.
سجّلت هذه العملية ضدّ واحد من أعتى جيوش العالم، نجاحاً تكتيكياً عظيماً صدم الكثيرين وترّدت تداعياته على نطاق واسع، وأظهرت هشاشة هذا الجيش الذي صرعوا العالم به رغم كل الإمكانيات المقدمة له من أمريكا والغرب الاستعماري.
إن الذي أوصل المقاومة إلى هذه اللحظة هو الظلم المستمرّ الواقع على الفلسطينيين وحالة اليأس التي بلغوها بعد أن داست إسرائيل على كلّ بصيص أمل بإنهاء احتلالها القائم منذ ثلاثة أرباع القرن عبر الوسائل الدبلوماسية. فقد تخلّت الحكومات الصهيونية المتعاقبة عن مسرحية التفاوض حول إنشاء دولة فلسطينية، حتى أنّها أعلنت صراحةً عزمها حكم الفلسطينيين إلى ما لا نهاية، مع استمرار حرمانهم من حقوقهم الأساسية وحريتهم.
ولا يقتصر هذا الواقع على قطاع غزة حيث يعيش أكثر من مليونيّ فلسطيني تحت الحصار منذ 17 سنة في أكبر سجن مفتوح في العالم، ولكن أيضاً في الضفة الغربية، والقدس حيث يعيش 3 ملايين فلسطيني في 167 كانتون محاصر، في أوضح تجسيد لنظام الفصل العنصري، ومع ازدياد حالة اليأس في ظلّ تدهور الأوضاع المعيشيّة، زادت إسرائيل منسوب العنف المستخدم ضد الفلسطينيين إلى مستويات غير مسبوقة عدا عن تدنيس المسجد الأقصى بقطعان مستوطنيه مرات عديدة هذا العام في ظل حكومة تضم كل العناصر الأكثر تطرفا” في الكيان .
بعبارة أخرى، لم يكن هناك أمام الفلسطينيين إلا المزيد من الأسى والاضطهاد والظلم مع ذلك، لم يتخذ المجتمع الدولي أي إجراء للحدّ من معاناتهم، ولم يصدر عن الغرب الأمريكي أيّ ردّ فعل غير تأييد حقّ جيش الاحتلال “بالدفاع عن نفسه” في وجه السكّان الذين يخضعهم لاحتلاله.
وقابل كل هذا الظلم والاضطهاد تراكم كمي في قوة وقدرة المقاومة الفلسطينية وعمقها المتمثل بمحور المقاومة والممانعة الذي أدى إلى تحول نوعي يفرض معادلاته بتآكل القوة عند الكيان وهي الركيزة الأساسية لوجوده.
اليوم نشهد انحداراً غير مسبوق لهذا الكيان المهزوز من الداخل،وأتت عملية “طوفان الأقصى” للمقاومة الفلسطينية لتظهر تصدعه ،وإبراز هشاشة بنيته العسكرية والأمنية والاستخباراتية، وتوجه له ضربة موجعة لا سابق لها منذ العام 1948.
ومنذ الساعات الأولى سارعت أمريكا لإرسال بوارجها وحاملات طائراتها، وزودت الصهاينة بوسائل الدفاع الجوي وصواريخ الباتريوت، ونقلت عبر أسطولها الجوي كل وسائل القتل والدمار، ،عدا عن الدعم المالي غير المحدود وكذلك فعلت انكلترا من خلال بوارجها بالإضافة إلى المانيا وإيطاليا وفرنسا التي أرسلت حاملة طائراتها الى ساحل غزة .
وما نشهده بعد مرور الشهر هو الفشل الذريع على كافة المستويات ،وكل ما فعله العدو هو الاقتصاص من أطفال غزة ونشر الموت والدمار في كل مكان، ولم يحقق لغاية الآن أي نتائج على الأرض، والواضح أنه سيغرق أكثر في الرمال الغزاوية، هذا عدا ما يمكن أن يواجهه مع المقاومة اللبنانية وباقي فصائل المقاومة في العراق وسورية واليمن.. وبالتالي وفي حال الفشل سينعكس ذلك على الداخل الصهيوني ونشهد حالة من الهجرة المعاكسة ،كون أغلبية الصهاينة لديهم جنسيات مزدوجة.
من خلال تتبع مسار الهجرة نجد أن الهجرة الى الكيان في تناقص مستمر في حين أن الهجرة العكسية خارج الكيان هي في تنام وتأخذ مسارا” تصاعديا: ويستحيل استمراره بدونها ويعود ذلك الى الأساس الذي بني عليه هذا الكيان الغاصب وهو كأي ظالم وغاصب ومستبد استمراره يعتمد على القوة التي يمده بها الغرب الاستعماري.
أما بالنسبة للفارين من الكيان فآخر إحصاء نشره موقع «باسبورت نيوز» العبري – المعني بأخبار السفر والتنقلات – وتقرير صحيفة دي ماركر أنه منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر وحتى آخر شهر اكتوبر أي خلال ثلاثة أسابيع فقط، غادر أكثر من ٢٣٠ ألف صهيوني الكيان ، أي ٤،٣% من مستوطنيه, وبينهم متدينون يهود يحملون أغراضهم ويفرون من الكيان عبر السفينة الأمريكية التي نقلتهم الى قبرص، ويتوقع ارتفاع أعداد المغادرين مع استمرار الحرب العدوانية على أهالي غزة، وتصاعد التوتر على الجبهة الشمالية مع لبنان، والمواجهات المتواصلة في الضفة الغربية المحتلة.
وكانت مشاهد الازدحام غير المسبوق في مطار تل أبيب -الذي تعطل بعد قصف المقاومة في ذلك اليوم- والمطارات الأخرى أكبر من أن تفسر بسياقات السفر العادية، فمعظم من يخرجون باتوا لا يعودون، وكثير منهم يسافر الى قبرص.
ويضرب كل ذلك عمق العقيدة الصهيونية التي تقوم على عنصر الإحلال والاستقرار وتشجيع الهجرة المكثفة إلى “أرض الميعاد”، والذي كان هاجس الوكالة اليهودية منذ تأسيسها عام 1922.
هذا عدا عن نزوح أكثر من 500 ألف مستوطن بعد 7 اكتوبر من مستوطنات غلاف غزة والمستوطنات الشمالية الى داخل الكيان، وتشير ظاهرة الهجرة العكسية المتزايدة إلى انكسار أسباب الاستقرار المبنية على الأمن، فبالنسبة للكثيرين لم يعد الكيان دولة آمنة ولا يتوفر فيها عنصر الاستقرار والأمان ومبررات البقاء والمستقبل الذي ينشدونه مع التآكل المتسارع لنظريتها الأمنية وعدم اليقين في مستقبل الدولة ذاتها، وبالتالي فإن فكرة الرحيل أو الهجرة العكسية كانت البديل بالنسبة للكثير من السكان.
ولا يعد رحيل المهاجرين اليهود من الكيان ظاهرة جديدة، ولكنها أصبحت لافتة في السنوات الأخيرة.
فقد زادت الهجرة العكسية بشكل واضح بعد تحرير الجنوب اللبناني عام 2000 وعدوان عام 2006 على لبنان والاعتداءات المتكررة على قطاع غزة خلال 20 عاما” الماضية وضرب الكيان من الداخل.
وبحسب صحيفة “معاريف” الصهيونية، فإنه حتى عام 2020 غادر أكثر من 756 ألف يهودي الكيان للعيش في بلدان أخرى، ويعود ذلك إلى تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية والأزمة الداخلية وغياب الأمن والاستقرار.
وفي هذا الاطار أشار استطلاع للرأي إلى أن 33% من سكان الكيان يفكرون فعليا بالهجرة والانتقال للعيش في أوروبا وأميركا بسبب مقاومة الفلسطينيين للاحتلال وحكومة نتنياهو المتطرفة وسياساتها العنصرية، وبما أن نصف سكان الكيان تقريبا ما زالوا يحملون عمليا جوازات سفر بلدانهم الأصلية (الأشكناز) فإنهم جاهزون لاستخدامها والهرب في حال اقتضى الأمر.
كما ذكرت تقديرات إحصائية صهيونية أن نحو 800 ألف مستوطن ممن يحملون جوازات سفر إسرائيلية يقيمون بصورة دائمة تقريبا في دول عدة ولا يرغبون بالعودة إلى الكيان .
هذا وارتفع عدد المستوطنين الذين يسعون للحصول على الجنسيات الأوروبية بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة . فقد أشارت التقارير إلى ارتفاع الإقبال على نيل الجنسية الفرنسية بنسبة 13%، وسجلت السلطات البرتغالية زيادة بنسبة 68% في طلبات الحصول على الجنسية من المستوطنين ، كما سجلت السلطات البولندية والألمانية زيادة بنسبة 10% خلال الشهرين الماضيين.
ستبقى فلسطين لأهلها منتصرة بمقاومتها العظيمة وشعبها الأصيل وسيزول الكيان الغاصب مهما طال الزمن.