الملحق الثقافي- رفاه الدروبي:
إنَّه شاعر سوري من شعراء المهجر غرَّد على أغصان الغربة فسحر بشعره كلَّ من قرأه. كان متواضعاً، ولطيفاً وخجولاً، دائماً يتحاشى النزاع والخصومات المدرسية، ذا لسان طاهر دافئ، لايتكلم الشر أبداً، وكان محبوباً محترماً من قبل أساتذته وأصدقائه.
نسيب عريضة (1887 – 1946 م) شاعر وقاص سوري ولد في حمص، وتلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة حمص الروسية المجانية، وعندما ظهر تفوقه الدراسي اختارته جمعيتها ليكمل تعليمه الثانوي في مدرسة المعلمين الروسية بمدينة الناصرة في فلسطين وعاش في قسمها الداخلي منذ سنة 1900، ثمّ أمضى فيها مدة خمس سنوات أنهى خلالها تعليمه.
أغرم بالقراءة والتأمل بالطبيعة والحياة منذ صغره، فقرأ أمهات الكتب في الأدب العربي خاصة دواوين الشعراء، ثم بدأ يقرض الشعر في مختلف موضوعات الحياة وغلب على شعره التأمل.
هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1905م،وكان عمره لا يتجاوز سبع عشرة سنة. اشتغل في المصانع والمتاجر المختلفة مع أبناء عمه وكانت الحياة شاقة، لم يخفِّف عنه آلامها إلا عالم شعر أحبه. فكان يعمل أثناء النهار ليهيئ لنفسه ساعات هادئة في المساء يخصصها للقراءة والدراسة والبحث، محاولاً دخول عالم أكثر سمواً من عالم المادة حتى عرف بين أصدقائه بلقب «الموسوعة العربية»، كان أحد مؤسسي الرابطة القلمية في نيويورك عام 1920 م، ضمت كثيراً من أدباء المهجر في أميركا الشمالية. نشر عدة مقالات، وترجم مجموعة كتب عن الروسية. التقى خلالها بميخائيل نعيمة بعد سنتين قضاهما في مدرسة الناصرة وأصبح فيما بعد صديقاً وزميلاً له مدى حياته مع عبد المسيح حداد.
تسلَّم رئاسة تحرير جريدة «مرآة الغرب»، لصاحبها نجيب دياب، ثم انتقل إلى جريدة الهدى لصاحبها نعوم مكرزل.
أسس مطبعة وأصدر مجلة «الفنون» عام 1912م احتلت مكاناً محترماً في الجالية العربية بأميركا والعالم العربي، حيث اهتمت بشؤون الآداب والفنون الرفيعة ولكنَّها احتجبت لظروف الحرب العالمية الأولى سنة 1914 بعد أن صدر منها عشرة أعداد، ثم عاد ليصدرها مرة أخرى سنة 1916 واستمرت حتى سنة 1918 ولكنه شعر أن آماله قد انهارت فامتلأت كتاباته الشعرية والنثرية بروح الحزن والأسى والوحدة والتشاؤم. تزوَّج سنة 1922 السيدة نجيبة شقيقة الشاعرين عبد المسيح الحداد وندرة حداد ولم ينجبا أطفالاً.
اعتزل العمل لظروف مرضه، وعانى من متاعب القلب والكبد، وعكف على جمع ديوانه، ولكنَّه مات والديوان بين يديه المُجَلَّد في برولين في 25 آذار 1946
يتميَّز شعره بالرقة والحنين للوطن، وقد جَمعهُ في ديوان «الأرواح الحائرة»، توفّى قبل أربعة أيام من صدوره. له قصّتان: «الصمصامة» و«ديك الجن الحمصي».
بدأ كتابته في الخامسة عشرة من عمره وكان صاحب مدى شاسع، ولشاعريته وجه يميزها عن كل شاعرية، ولألحانه رنة تعرف بها بين سائر الألحان، وفي كل ما ينظمه نكهة تختلف عن غيره، والملاحظ أنَّ فقره لازمه حتى آخر أيامه، وانعكس على شعره فأعطاه طابعاً خاصاً وأسلوباً مميزاً ظهرت فيه روحه المعذبة وإحساسه بالغربة والوحدة، وتبدو من خلال أشعاره صورة حياته المضطربة، فغلب على شعره التأمل، وشكوى الحياة والبؤس، والحنين للأوطان، وظهرت فيه خيوط إنسانية قوية. اقتربت بعض قصائده من الشكل الملحمي. يقول الشاعر في قصيدة عنوانها «علقتُ عودي على صفصافة اليأس»
ورُحتُ في وَحدَتي أبكي على الناسِ
كأنَّ في داخلي قَبرًا بوَحشَتِهِ
دفنتُ كلَّ بشاشاتي وإيناسي
ما قبرُ حربٍ ولا دربُ المُنخّلِ أو
دَفائنُ الجِنِّ شيئًا عند أرماسي فيها
وأَدتُ بُنَيَّاتٍ وأغلِمَةً
صُبحَ الوُجوهِ عليهم نَضرَةُ الآسِ
حفرتُ بالفأسِ في قلبي الضريحَ لهم
وكنتُ أبكي ويبكي الصخرُ من فاسي
خيرٌ لهم وأدُهم من موتِهم سَغبًا
أو أن يُبيحوا مياهَ الوجهِ للحاسي
يا قبرَ آمالِ نفسي في ثَرى كَبِدي
يفيض الحنين به ويعود بذاكرته إلى أيام حمص الخوالي وماضيها الجميل فيقول أيضاً في قصيدة عنوانها «صور تلوح لخاطر المعمود»
صُوَرٌ تَلوحُ لخاطرِ المَعمودِ
ما بينَ أرباضِ المُنى والبِيدِ
خَفَّاقةٌ فيها بُنودُ العِيدِ
بسَّامةٌ فيها ثُغورُ الغِيدِ
تَجلو رُؤى ماضي الهَوى المفقودِ
وَقفَ الفؤادُ أسيرَ بارِقِ نارِها
يَهفُو إلى ما لاحَ من أسرارِها
لِمَن الدِيارُ تَذوبُ من تَذكارِها
مِن بَعدِ طولِ نوىً وفَرطِ جُحودِ
يا مُوثَقًا من شَوقِهِ بقيودِ
يا قلبُ ما هذا الخُفوقُ وما ترى
في ما تَوهَّمَهُ الخَيالُ وصَوَّرا
تَبكي كأنَّك بعضُ أفئدةِ الوَرى
وظنَنت أنك صِرتَ صُلبَ العُودِ
أشَجَتك رُؤيا يا أخا الجُلمُودِ
ويتساءل في حسرة ترى سيعود إلى وطنه ويبدي أمنيات الرجوع ولو بعد الموت فيقول:
يادهر قد طال البعاد عن الوطن
هل عودة ترجى وقد فات الظعن
عد بي إلى حمص ولو حشو الكفن
واهتف أتيت بعاثر مردود
واجعل ضريحي من حجار سود
كان متميزاً في شعره، واسع الثقافة، استطاع استخدام أدواته اللغوية بمهارة فيقول في قصيدة أخرى، عنوانها «أَقِيموا على قَبري من الصَخرِ دُميةً»:
أَقِيموا على قَبري من الصَخرِ دُميةً
بها رَمزُ عَيشي بعدَ مَوتيَ
يُعرَضُ يَدانِ بلا جِسم تُمَدَّانِ في الفَضا
تُمَدَّانِ من صَخرٍ على القَبرِ
يَربِضُ فيُمناهُما مَبسوطةٌ تشحَدُ الجَدا
لتُشبِع جوعَ النفسِ والجوعُ
يَرفضُ ويُسراهما فيها فؤادٌ مُضرَّجٌ
تُقدِّمُه للناس والناسُ تُعرِضُ
لم يقتصر أسلوبه على تجديد المضمون بل التفت إلى الشكل وأسلوب التعبير واللاعب بالأوزان الشعرية فلجأ إلى القصيرة والمسطورة والمجزوءة كي تتناسب مع موجات النفس المتأوهة المتحركة حيث قال عن حيرة قلبه ببساطة وعفوية في قصيدته «مركب الفؤاد»
قلبي بلا شراع
يطوف في البحار
قد قارب الداعي
من كثرة الأسفار
ياعاصفات هُبي
ورقي السفين
في العمق بلق قلبي
مرفأه الأمين
بينما الحنين يأخذه عندما تستوقفه عند حانوت بقال «سلة فواكه» منوعة لمحها معلقة أمام الدكان فراح يتأملها إذ ذكرته بما كان يراه في وطنه قال:
واستوقفني على حانوت بقال
عيني وقوف مشوق عند أطلال
سلسلة لمحتها في الحال
فيها فواكه لم تخطر على بالي
ثمار كرموتين فوق رمان
وقفت رغماً وحولي الناس ما وقفت
أراقب السل والأمطار قد بسمت
كأنَّها إذا رأيتني مدهشاً عرفت
أني غريب فحيتني وما نطقت
فطار قلبي حيناً نحو أوطاني
أمَّا مؤلفاته
ترك العديد من القصص القصيرة، منها: «ديك الجن، الصمصامة، أسرار البلاط الروسي»؛ وتعتبر قصص مترجمة عن الروسية، إضافة إلى ديوان شعر بعنوان «الأرواح الحائرة»،ويحتوي على 95 قصيدة، منها مطوّلتان إحداهما بعنوان «على طريق إرم « في 236 بيتاً موزعة على ستة أناشيد، والقصيدة المطولة الأخرى بعنوان «احتضار أبي نواس»، في 72 بيتاً استوحى فيها احتضار الشاعر العباسي أبي نواس. إضافة إلى كتاباته في عدد من المجلات، مثل: «فنون، مرآة الغرب، الهدى» ورواية مترجمة عن الروسية، وديك الجن الحمصي – قصة نشرت في مجموعة الرابطة القلمية، والصمصامة وله مقالات وفصول مختلفة نشرت في بعض دوريات المهجر. قرض الشعر في مختلف موضوعات الحياة.
العدد 1169 – 28-11-2023