تلويحة الأيدي المغادرة والتي تُعرف أيضاً بمصافحة الوداع، أو وداعاً بالأيدي، تحكمها لحظة مؤثرة ترتبط بالعديد من الأحاسيس، والتجارب الشخصية عندما يغادر المرء مكاناً ما بالرحيل عنه، أو عندما يفترق عن أحباء، أو أصدقاء. إنها تلك اللحظة التي تمتزج فيها المشاعر بين الحزن والفرح، والترقب واللوم، وفي التعبير عن انتهاء فصلٍ من فصول الحياة، وبداية فصلٍ آخر، ومغامرة جديدة أخرى. وإذا ما تمت المصافحة بين تلك الأيدي فإنها تشير إلى أوقات، وذكريات انقضت بين المتصافحين، وربما تثير أسئلة، أو تحديات.
والمفارقات تتحدث عن نفسها بنفسها.. بل إن مفارقة صاعقة برزت من بين الممارسات المتبادلة بأدوارٍ للشرف، وأخرى للتجرد منه بعد أن شهدنا جميعاً تلك الأيدي للمخطوفين كيف لوّحت بالوداع لمختطفيهم في مشهد ليس بالمألوف عادةً في مثل هذه الأحوال في تعبيرٍ عن الاحترام، والتقدير للعلاقة التي نشأت بين الطرفين، كما الشكر، والامتنان لما لقوه من إحسان، ورأفة.. بل إن هذا المشهد يقع بين حدّين متناقضين أحدهما متوقع لمن يعرف أخلاقنا العربية الأصيلة، والثاني من غير المتوقع للعدو الذي يدعي ما لا يملك ذرة واحدة منه سواءً من الإنسانية، أم من أخلاقيات الحروب المتعارف عليها منذ أزمان، وأزمان.
إن في تلويحة أيدي المخطوفين من الإسرائيلين، أو مصافحة الوداع ما يحمل في طياته ما لم تفصح عنه الكلمات من مشاعر، ومعانٍ في لحظة تحوّل تكشف أهمية الممارسات الإنسانية السوية التي تحكمها القيم، والأخلاق السليمة. وفي حين أن الأسرى الفلسطينيين يخرجون من سجون العدو بإصابات جسدية، وأخرى نفسية، وبملابس مدماة، يخرج ضيوفهم الأسرى على الطرف المقابل بشعور لامعة، والأقراط في الآذان ما تزال تتدلى لم تُنزع، وبثياب نظيفة لائقة، مطمئنين سالمين لم يمسسهم سوء.
الفرق شاسع بين مَنْ يعطي الطمأنينة، والأمان، وكلمة الشرف لأسراه، ومَنْ يقوم بالترويع، والترهيب لسجنائه حتى من الأطفال، والأحداث الصغار.. والفرق أيضاً شاسع بين مَنْ يغادرون، وكأنهم لا يودون المغادرة، وهم يبتسمون، وبين مَن يرتسم الخوف في أحداقهم من أن يعيدونهم إلى سجونهم.. وبين مَنْ تعطى لهم الحلوى، وزجاجات المياه يحملونها معهم وهم يغادرون بينما أبناء جلدتهم من خفافيش الظلام يمنعون عن أهل غزة قطرة الماء، وبين مَنْ تُصادر من بيوتهم الحلوى التي أُعدت للاحتفاء بالأبناء العائدين إلى أهاليهم من الأسرى المحررين، ولا يكتفون بذلك بل يذهبون أبعد منه عندما يكتمون صوت الفرح من أن ينطلق، ويمنعون وسائل الإعلام من أن تحشر أنفها في الحدث، كما يحظرون على المهنئين من الأقرباء، والجيران، والأصحاب من أن يأتوا لبيوت المحررين، لكن التهنئة، والتبريكات كانت أكثر تحدياً لتلك الممارسات العدائية، التافهة، والمنحرفة، عندما انطلقت أصواتها عبر نوافذ بيوت الجوار لتصل إلى مَنْ يُقصدون بها.
والفرق بالتالي شاسع إنسانياً بين مَنْ يجازف بنفسه لينقذ قطة أصابها القصف، وبين مَنْ يمنع سيارة إسعاف من الوصول إلى المصابين أصحاب الدماء النازفة حتى الموت.. وبين مَنْ يحفر بيدين عاريتين لإنقاذ حياة من تحت الركام ومَنْ يخدع المرضى، والجرحى ليخرجوا من المشافي حتى يصطادهم واحداً واحداً ليزهق أرواح أكبر قدر من البشر متلذذاً بالقتل، ومشهد الدم، والدمار في تجاوزٍ صارخٍ للقانون الإنساني الدولي.
غيض من فيض من المفارقات الجارحة الفاضحة بين هذا وذاك يسجلها التاريخ للتاريخ، وتسجلها ذواكر كل مَنْ رأى، وسمع على امتداد مساحات قارات العالم التي خرج مواطنوها معترضين، مستنكرين ما يحصل من إجرام، وإرهابٍ، وغيابٍ للضمير.
وسيظل بريق الود الخفي يلتمع في العيون، عيون من ظنوا أنفسهم أنهم رهائن لكنهم اكتشفوا أنهم إنما كانوا ضيوفاً لا رهائن، ولا أسرى.. ضيوف استدعت الظروف استضافتهم.
* * *