الثورة _ هفاف ميهوب:
يذكّرني ما نعيشه في هذا العصر الذي فرضت علينا تقنيّات عالمه الرقمي، الانسلاخ عن ثقافتنا وعلومنا وقيمنا وإنسانيتنا، والتماهي في فضائه الذي تتوالى حروب أجياله، وتنتصر للجاهل والقاتل والمتعصّب الغبي.. يذكرني ما نعيشه في هذا العصر، بقول المفكّر “علي شريعتي” في كتابه “النباهة والاستحمار”:
“جيلٌ يُنشئه الاستعمار القديم، هو جيلٌ فارغٌ ومضطرب، لا يتحمّل أيّ مسؤولية.. أما الاستعمار الجديد، فيسلبُ النباهة الإنسانية والاجتماعية.. هذا جيل الاستحمار الحديث، الذي بات يرصد كلّ واحد فينا، نخرج من شكله القديم، فيتلقّانا بشكله الجديد.. نتمرّد عليه في مكان، فنقع في حبائله في غير مكان.. نكتشف حربه الإيهامية، فيوقعنا في حربٍ إيهامية أخرى.. وهكذا”..
نعم، هذا ما يذكرني به ما نعيشه، ويُشعرنا بتيهٍ يتفاقم فيه تشظّي وجودنا، مثلما تشتّت أفكارنا وانفصام عقولنا.. أيضاً، انقيادنا للعولمة المفترسة، وافتقادنا للطاقات المبدعة والمدهشة..
كلّ هذا، وسواه مما نراه يستشري حولنا، ويُفقد الإنسان وعيه بذاته ومجتمعه وثقافته، يحتاج إلى عقولٍ مستنيرة، وقادرة على إيقاظ هذا الإنسان من غفلته، وتبصيره بما يُحيكه ضده، أعداءِ وطنه وحضارته..
يحتاج أيضاً، لفكرٍ يدعو إلى الإيمان بالنفس ومن ثمّ الوجود، وهو ما دعا إليه “شريعتي” معتبراً بأن هذا الإيمان، هو سبيل الإنسان لمعرفة أصله ومكانته في مجتمعه، مثلما اصالته وكرامته وعمق وعيه..
بالتأكيد، يحتاج هذا الإيمان، إلى علاقةٍ متجذّرة بالأوطان.. يحتاج إلى نباهةٍ نفسية وفكرية وأيضاً اجتماعية، تردّ الاستعمار والاستحمار عنّا، وترسّخ وجودنا وأفكارنا ووعينا، بعد أن تخلّصنا من جهلنا وانقيادنا، وراء فضاءٍ تمكّن صنّاعه من تخديرنا وإنهاكنا وتدمير وعينا وعقولنا..
ببساطة، هي دعوة قديمة وجديدة، كي يفهم كلّ من يملك ولو بعض الوعي، بأن العالم يدار من قِبل قوى كبرى، تسعى لاستعباد واستلابِ وتهميش وتدمير الشعوب التي تتطلع إلى تحرّرها وانعتاقها، من كلّ فكرٍ أو وجودٍ استعماريّ..
نعم، هو الاستعمار، وباختلاف أشكاله وحروبه وأذرعه.. الأذرع العديدة والممتدّة في كل نواحي حياتنا، والتي جنّدها لشنّ حروبه ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ودينياً وسياسياً، ويهدف فرض المزيد من الهيمنة، والمزيد من استعمار واستحمار الشعوب، المزيد من تخديرها وتجهيلها وإفسادها وجعلها تتورّط أكثر وأكثر، في حروبه الكارهة والحاقدة، على الأرض والكرامة والثبات والمواجهة والمقاومة.