الملحق الثقافي- هادي دانيال:
لم أكن نائماً، كانت الشمسُ ساطعة وأشعّتها تلسع الجالسينَ إليّ
صديقيَ «ديكنزْ»، بلحيته المستقيمة تهتزّ وهو يحدّثنا عن طباع المدُن
كيف حين الهدوء يُسيطِر، كامرأة تتمكيَجْ
وكيفَ إذا طُلِبَت في المحافلِ قد تتغنّجْ
ولكنْ إذا الجوعَ عضّ بَنِيها، شوارعها غَضَباً تَتموّجْ
……….
تحدّثَ ديكنْز وهو يُمَسِّدُ لحيَتَه، بلسانٍ جديدْ
كان يُصغي لموزارتَ يعزف قدّاس موتِ مدينتنا كلّنا
و»راسينُ» يرمقنا ثمّ يرشقنا بِنَظير الحُسَيْن
كان شارعنا مستقيماً كلحيتِه
وإن كان عُودُ المدينةِ أعْوَجْ
……….
ينابيعُ دمعيَ جَفّت، تَبَخَّرت الصلواتُ العقيمةُ..
تعبر ذاكرتي سربنيتسا، ملجأ العامريّة، هيروشيما، ديرُ ياسينَ/ سطّرها الغرْبُ
«ملحمة» بَعْدَ أو قَبْلَ أخرى
وناء بألواحها ظَهْرُ تاريخنا البشريّ الحزينْ
وأنا أرقبُ الآن من شرفة القلب أطفالنا يركضون إلى حُلُمٍ ضاعَ.
لم يقتنعْ عزمُهُم: تحت أنقاضِ هذي المدينة كنزٌ دفينْ
……….
كان الهدوء مُسيطراً كجميلةٍ مغناجْ
وسلاحها المكياجْ
لكن زلزالاً بأثقال الحقيقة ماجْ
أيّ ثَوْرٍ أرسَلَتْ فيدرا مِنَ البحر إلى أطفال غزّةَ
أيّ وَحْشٍ يحفر الأرضَ بدبّاباته مُطارداً أشباحَ «هيبوليتَ» في جَنينْ؟
الشّعْبُ في قِدْرٍ على نارٍ مُقَدّسِةٍ
وطاهيهِ اللعينْ
قَدَرٌ يُؤكّدُ أنّنا نحنُ خطايا الربّ في نشوَتِهِ
ألْقى بنا مِن كُوّةٍ في عرشِه
إلى سريرِ نجمةٍ عاهرةٍ في عرَبَهْ
تقضي بنا أوطارها
وعندما تُفْرغُنا
تلقي بنا
إلى ذئابٍ
جَمَعَتْها مَسْغَبَهْ!
……….
الرياحُ السّموم تُغَنّي
والرّمالُ مُبَقَّعَةٌ بالخيامِ التي هَيَّجَتْ ثَوْرَ فيدرا
وأضرَمَت النار بين بُيوتٍ خشَبْ
وصُقُورٌ من المعدنِ الصّلْبِ
تَرْمِي الردى
وَتُحَلِّقُ فوق السُّحُبْ
فكأنّا ضحايا بطولتنا
نتلاطَمُ كالغَيْمِ بينَ أصابعِ عاصفةٍ
وكأنّا جِمارٌ نُقاوِمُ ما يُتَداوَلُ بين الدّخانِ وبين الغُبارِ لِسَمْلِ بصائرنا واحتطابِ مصائرنا
كي تُراوِحَ بين تفحُّمِها واللهَبْ
كالبراءة نثغو ونلعب في ظلّ دبابةٍ
بحجارةِ هذا الركامِ سنبني لنا دولةً؟..
يسأل الطفلُ.
مَن هَنْدَسَ الحربَ: كيف ننام ونحلُمُ، كيف نقوم ونُطْعَمُ، نحنُ وآباؤنا، وعصافيرنا والُّلعَبْ؟
بماذا تدرّعَ أهْل البلادِ الوديعون تحتَ السقوفِ الوطيئةِ
والوحش يقصدهم، رأسُه في السماء طيورُ حديدٍ
وساقاه دبّابتان على الأرض
والأرض مَنْبَتُنا
أنبَتَتْنا لتأكلنا بعدَ حينْ؟
……….
القلاع القديمة تهوي
والخيول الأصيلة تنفق
المصانع أنوالُها تنسجُ الكَفَنَ القطَريَّ الحريرْ
وغاباتها تلدُ الخشبَ المصطفى لتوابيت يوم النشورْ
وفولاذها يتمخّضُ عن خنْجَرٍ
وفؤوسٍ لحفْر القبورْ
————–
وغزّةُ غازٌ وغازٍ وطفْلٌ تُلاعِبُهُ قُنبُلَهْ
والجنينُ الذي في «جنينَ» يُكلّمُ كُلَّ فلسطينَ والعالمينَ
يراوغُ هذا المخاضَ الذي يُرْبِكُ الوقتَ بالأسئلهْ
————-
دَمٌ يتدفَّقُ كالسّيْلِ والوَقْتُ لَيْلْ
وهذا الجنينُ يُدافِعُ عن حقّهِ في الوجودِ
ولكنّه عالَمٌ مُغْرَمٌ بالمريضِ اليهودي
يُداري جرائمه
ثُمَّ يُلصِقُها بالقتيلْ
يا نَهار فلسطين والشمس سوداء سوداء
والقمَرُ الياسمينيّ «إبنُ» الجليلْ
يمتطي فَرَساً لا صهيلَ لها
وأعْزَلَ يهمزُها
فَتُجَنْدَلُ قَبْلَ الوُصُولْ
كَيْفَ تُشْرِقُ مِن يأسِنا نجمةٌ لا دليلَ لها
غَيْرَ صقر الدماءِ
مخالبُه فَنِيَتْ
وهيَ تَنْحَتُ في صخرةِ المستحيلْ؟!
دَمْعَتي حَجَرٌ
وعينايَ شاخصتانِ
وَدربي طويل
والأغانيَ يابِسَةٌ
والعروبة مَحْضُ سرابٍ
ولا بئرَ نُلقي بيوسُفَ فيهِ
ولا عذْر غيْرَ خيانتنا تتمطّى كعاهرةٍ
في ظلالِ النخيلْ
عواطفنا مِن رَمادِ فحولتنا
وأفكارنا أرخبيلْ
……….
ولكننا اليائسون بأجنحةٍ عندما انبسطت كي نطيرَ
بأغصانِ أرواحنا علقتْ فَسَقَطْنا
في حدائق موت يشمّر عن ساعديه وَيَطْحَنْ
……….
حينَ كالليلِ تَسْوَدُّ شمسُ الأمَلْ
دائما نستعدُّ
سوف نحيا ويزهر فينا الرمادُ
ونفتح نافذة في الجِّدار الذي صدّ شمس الحقيقهْ
ونعبرُهُ شُهُباً أو طيوراً طليقهْ
……….
نتصوّر أهدافَنا ويُردِّدُ لا وعْينا كالصدى
«سوف نضرب حيفا وما بعْد حيفا»
وحين يهزّ صُراخُ الصواريخ طبْلات آذانهم
وقهقهةُ الأرض مُشرقةٌ في هواء الجليلِ
يضيقُ المدى
……….
قال طفلٌ طالعٌ من بين أنقاضِ حياةٍ سُحِلَتْ:
«نحن لا نكبرُ»، لكنْ إن كبُرْنا
سوف نصرخُ: لا، وكلّا
ليسَ لحمهمُ رقائقَ فضّة وعروقهم ذهباً
ولحميَ مرتديلّلا!
وإذا امْتُحِنّا بالمِحَنْ
فجوابنا:
هذا الرُّكامُ هو الوطَنْ
……….
تناولتُ نظّارتيّ وسمّاعتيّ نظرتُ إلى وجه «راسينَ»، لحية «ديكنزَ»، لم أر غيرَ الضبابِ
ترقّبْتُ أن يطلق الآن موزارْتُ رُوحَ كَمَنْجَتِهِ كي يزول ارتيابي..
فسمعتُ طنين الذبابِ
كان أزرق حول الجثثْ
وكانت شرائعُكم بين أشلائنا تتمزّقُ
بين نيوبِ الكلابِ
……..
تقدّمْتُ وحديَ: هذا دمُ الشهداءِ وهذا غبار منازلهم
ونُوح الضمائرِ يَنْعى خيارَ السُّفُنْ
خُطْوَةُ الألف ميلٍ نُعاودُها؟. فكم ألف ميلٍ قَطَعنا؟
وكم من حياة أعزّ من العزّ نحن دفعْنا
عسانا نخلّص أطفالنا، إن نَجَوا، من عقابيل وعْيٍ شقيّْ
ولم يسقطوا في فخاخٍ تُعَدُّ لَهُم في رِمالِ «دُبَيّْ»
يا صديقيَ «نيتشَهْ»… في شبابيَ كُنْتَ النبيّْ
فلماذا تهدّلَ شاربكَ الآنَ قُدّامَ «يَهْوَهْ»؟
عندما نلتقي،
رُبّما في الجحيمِ الرّماديّ أو في العَدَمْ
سوفَ أفْردُ قُدّامَ عينيكَ عُمْرِيَ كي تتثَبَّتَ مِن أنّ ثَمَّةَ مَن لا يُباعُ ولا يُشْتَرى
ومِن أنَّ ثمّةَ مَا لا يُباعُ ولا يُشْتَرى
ولَسَوفَ ترى
أنّ لا شيء يعدلنا، لا ثمَنْ
أننا الشاهدُ المؤتَمَنْ
أنّ إحساسنا بالعدالةِ
إحساسُ مَن ظمئوا بالندى
ولا شيء يعدلُ فرحتنا بالحياةِ
وَنحن طرائدُ هذا الردى
لا جواهر سلمانَ، أعني كنوزَ سليمانَ، تطرف عيناً لنا
لا زهور الدِّمَنْ
وردة الأبديّةِ نحنُ
رِهانُ الزمنْ
العدد 1171 – 12 -12 -2023