الملحق الثقافي- فرات إسبر:
متعة ُ القراءة الأولى كانت مع الروائية السوريّة «كوليت خوري». لا أتذكر فيما إذا كانت في الصيف أم في الشتاء؟
لا فرق، متعةُ القراءة تكون في كل الفصول!
رواية «أيام معه» لكوليت خوري كانت المفتاح الحقيقي إلى دروب القراءة. معها دخلتُ هذه الحديقة الورقية التي تملأ بيتنَا بكل زواياه،نحرسها من الغبار، عدوها الأول.
أذكرُ أبي بتعاليمه الأولى «اِقْرَؤُوا». لا أنسى أبداً.
ولدت في بيت ٍ يملك ُ من الكتب أكثر مما يملكُ من المال، حقاً إنّها مفارقة عجيبة . كان الأصدقاء يستعيرون الكتب لقراءتها، البعض يُعيدها والبعض الآخر يتجاهل، وكان أبي يغضب ُ عندما لا يُرد ّ الكتاب، ويقول:»إّنها جواهرنا،لا نملكُ غيرها، لا تعيروا كتاباً دون أن تتأكدوا، أن من استعاره سيعيده».
مفارقات الزَّمن والذاكرة، كبرتُ على حب الكتاب. وتعرفت إلى كبار الكتّاب في بيتنا، القدماء والجدد منهم، وكان أكثر ما يُغريني منهم «كارل ماركس» ولحيته الطويلة التي أحبها.
كارل ماركس غيّر حياتي من مهنة التعليم إلى كليه الحقوق،حيث تم بأنني من الشيوعين، الذي لا أعرف أحداً منهم منهم سوى لحية كارل ماركس.!
الزمن بدورته أخذني بعيد اً، وكان عليّ أن أبدأ حياتي بخطوات تختلف تماماً عما كانت عليه ولكن الشيء الوحيد الذي ورثته هو حبُّ القراءة وحبُّ الكتب، وبطبيعتي كبرتُ على حب الورق الأصفر، هذا المجهول العابق بسحر الماضي وأصابع الكتّاب العشاق، وبحكايات تحمل سحر الحياة والعالم.
كنت وما زلت ُ أتمنى أن يرثَ أولادي ما ورثته أنا من أهلي.
عندي بعض الكتب التي احتفظت ُبها لسنوات طويلة،ورافقتني إلى أبعد طريق في العالم، إلى جزر نائية، كان سعر شحن الكتب وقتها يعادل ثمن تذكرة الطائرة.
في البلاد الجديدة التي اخترتها للحياة، كنت أشعر بسعادة غامرة . قبل أكثر من عشرين عاما كنت أرى الجميع يقرأ، النساء، الرجال، الأطفال، كنت أشعر بصلة القرابة بيني وبينهم مع أني لم أكن أجيدُّ لغتهم، كنت قد تعلمتُ الفرنسية ولكنني فقدتها بعد أن كنت متفوقة بها خلال أيام الدراسة والجامعة، ولكن اللغة تحتاج إلى علاقة حبٍ بينها وبين صاحبها، وهكذا انتهت علاقتنا لعدم التواصل، وكان علي أن أبدأ مثل طفلٍ صغير ٍفي مراحله الأولى وعليه أن يتعلّم القراءة والكتابة والكلام.
هكذا بدأت مغامرة التعلّم والقراءة الجديدة في بلاد تمتلك من المكتبات عدداً لا يُحصى، إضافة إلى المكتبات المتنقلة بين الأحياء،هذه الفكرة تدهشني تماماً بجماليتها وأهميتها.
كتب ٌفي رحلة عربة ٌ متنقلة تجُّر عشرات الكتب للصغار والكبار، الجميع يتراكض إليها وكأنها بائع حلوى أو آيس كريم.
جارتي الإنكليزية القارئة العظيمة التي لا تتوقف عن القراءة، تُجيد متعة البحث عن ذاتها في الروايات وكانت لا تنسى بأن تأخذ دور البطولة في كل كتابٍ تقرأه لتحكي لي حكايتها. كنت قد التقطت لها بعض الصور، وهي تقرأ بنهمٍ وشغفٍ ما بعده ُ شغف.
تغيرت القراءة وتغّير حالُ القُراء، خفّ عددهم في زمن الجرافات الإلكترونية، وأصابتنا صعقةُ الموبايل والبلاي سستيشن والآي باد.
في صراع الزمن وتكنولوجيا الجَّرافات، يصرخ ابني في وجهي:
أما زلت امرأة قديمة تحافظين على عقليتك منذ ألف دهرٍ، لماذ لا تقرأين في النت؟ في الإنترنت توجد كتب رائعة.
أصرخ في وجهه، اصمت، أحلمُ بأن أراك يوماً تحمل كتاباً في يديك، فيجيبُ أنني أقرأ الكثير من الكتب هنا في هذا الجهاز الصغير! أنظرُ إليه بحب وعتب، يا إلهي كيف لي أن أقرأ كتاباً منحه ُ كاتبهُ روحه وحياته عبر هذه الشاشة الصغيرة التي لا تحسُ ولا تدرك ُ ولا تشعر.
إنّها حربٌ الأجيال .!
أصرخُ في وجه أولادي:
أغلقوا أجهزتكم وانظروا إلى السماء والأرض والأشجار والخريف والشتاء. فترد ُ ابنتي: أمي … أمي عندما أصبح ُ في عمرك سأفعل كل ما تفعليه اليوم!.
ومع ذلك لا يزال عندي شغف القراءة من الكتب القديمة وكلمّا رأيت كتاباً أصفرَ الوجه، اقتنيه.
من متعة القراءة إلى رهبة الخوف على كتّابٍ قضوا أعمارهم في الكتابة، سؤال طالما وقفت عنده طويلاً،لست وحدي،ربما العشرات منكم الآن يرددُّ ما أفكر به: إلى أي مصير تذهب هذه الكتب ؟
في طريقي إلى البيت التقي بجارتي التي وضعت كرتونة من الكتب أمام بيتها، فاستغربت الموضوع وسألتها لمن هذه الكتب وماذا ستفعلين بها ؟ فاجابتني وكأن ثقلاً حل عن ظهرها، إذا كنت ترغبين بها،خذيها، نظرتُ إلى الكتب وبدأت أتصفح العناوين.
ياإلهي : أعمال «باولو كايلو» تُرمى على الرصيف، ياقراء العالم انتبهوا!
قلت لها مستغربة: هل حقاً سترمي هذه الروايات؟ قالت:نعم وسألتها فيما إذا كانت قد قرأتها فقالت لي:
لا، وأبدت اهتماماً قليلاً بما أخبرتها به عن هذا الكاتب البرازيلي الذي ترجمت أعماله إلى كل لغات العالم .أدركت تماماً أنني حصلت على جائزة في اليانصيب، لأنني لا أستطيع شراء هذه الكتب بسبب أسعارها المرتفعة.
هكذا حصلت على الظاهر «والخيميائي، وعلى نهر بيدرا جلست وبكيت». كانت بالنسبة لي فتحاً جديداً للقراءة .ولكن هل يعلم»باولو كايلو» على أيّ رصيف غريبٍ ومجهول يبكي الخيميائي والظاهر وامرأةٌ عربيةٌ غريبة من بلاد بعيدة قررتْ أن تجدَ له مأوى في بيتها، وهي وحدها تفهم سَّر هذا البكاء على شواطئ بعيدة وغريبة.
زمن القراءة، يموت، بموت القارئ، من لا يقرأ من الورق لا أُعوُّل على قراءته، الزّمنُ البارد ُ، الدموع،الأفراح،الأحزان، الملاحظات المدونة، هي أنفاسُ الكاتب، لا يشعر بها إلا هو والقارئ المحبُّ، تماماً كالفلاح الذي يحدثهُ الصناعي عن لحظة تفتح البذور،هو يشعر كم هو متكلفٌ هذا الصناعي وجاف بمشاعره وأحاسيسه !
القراءة ُ لا تعرف الزَّمن، فمن صفرة الأوراق إلى بياضهاِ الناصع دهور ٌ مرتْ بينهما. وكم أعجبُ وأستفز ُ من شاعرٍ يقرأ أشعاره من جهاز الموبايل والآي باد. أشعر بالحزن على هذه الكلمات وعلى شاعرية الشاعر، كيف له أن يحاصر المعنى بشاشة إلكترونية لا تشعر ولا تفهم.
اتركوا أوراقكم للرياح، العاصفة تحمل معها ثمرات اللقاح. في كل الفصول يوجد ُ الثمار التي نُحبها.
العدد 1171 – 12 -12 -2023