الثورة – ديب علي حسن:
من أشهر الكتب في العربية- إن لم يكن أشهرها بعد كتاب سيبويه, تقول عنه الموسوعة العالمية كتاب “الخصائص” هو أحد أشهر الكتب التي كتبت في فقه اللغة وفلسفتها، وأسرار العربية ووقائعها، قام بتأليفه ابن جني، الذي يقول في مقدمة كتابه عنه: “كتاب لم أزل على فارط الحال، وتقادم الوقت، ملاحظاً له، عاكف الفكر عليه، منجذب الرأي والروية إليه وأداً أن أجد مهملاُ أقيله به، أو خللاً أرتقه بعمله، والوقت يزداد بنواديه ضيقاً، ولا ينهج إلى الابتداء طريقاً، هذا مع إعظامي له، وإعصامي بالأسباب المناطة به، واعتقادي فيه أنه من أشرف ما صنف في علم العرب، وأذهبه في طريق القياس والنظر.. وأجمعه للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة…”. ويعد الكتاب أهم كتب ابن جني إذ فتق اللغة العربية فيه تفتيقاً.
يناقش ابن جني في هذا الكتاب بنية اللغة وفقهها وأصولها، ويبدأ الكتاب بباب في مناقشة إلهامية اللغة واصطلاحيتها، وعرض لقضايا من أصول اللغة: كالقياس، والاستحسان، والعلل، والحقيقة والمجاز، والتقديم والتأخير، والأصول والفروع، واختتم بحديث عن أغلاط العرب، وسقطات العلماء. فتح ابن جني بهذا الكتاب في اللغة العربية أبوابا جديدة لدراستها.
أهدي هذا الكتاب للسلطان بهاء الدولة البويهي وتمت طباعته لأول مرة في مصر في عام 1913 م إلا أن الكتاب وقتها لم ينشر كاملا. بعدها طبع الكتاب كاملا محققا على يد محمد علي النجار عام 1955.
دراسة حديثة
ويحسب للهيئة العامة السورية للكتاب أنها عملت على إصدار دراسة حديثة عنه في جزأين وجاء الكتاب تحت عنوان “خصائص العربية في خصائص ابن جنّي”… الخصائص الصوتية دراسة وصفية تحليلية وظيفية.
الجزء الأول، تأليف: د. نينيت خضور.. تضيء هذه الدراسة الصوتية مجموعة قوانين وأصول، يمكن أن توظّف في مقاربة كثير من الظواهر اللغوية، ولاسيما الصرفية وتفسيرها.
ائتلاف الحروف في الألفاظ العربية ينهض على نظام صوتي، له فلسفته وقوانينه، يرفض توالي الأمثال، وينفر من تتابع الحروف المتضادة من حيث الصفات، ويألف تجاوز الأشتات والانتقال من حال إلى حال، مما يوفر استقامة اللفظ وسهولة النطق. ولما كان لابدّ – في لغة يقل عدد حروفها وتكثر معانيها – من التقاء المثلين، وتجاوز المتقاربين، وتوالي المتضادين مما لا يقبله الذوق العربي، ولا يرضى عنه الحس اللغوي السليم، ولا ينسجم وقانون الجهد الأقل الذي يحكم اللغات عموماً، فقد لجؤوا – لدرء ذلك – إلى آليات لغوية صوتية دقيقة، كالإدغام والإعلال والقلب، والخروج إلى حروف فروع.
وتُعدّ الخصائص الصوتية، ولاسيما قوانين الائتلاف الصوتي، من الأسس المهمة التي لا يمكن تجاهلها عند المصطلح العلمي المقيس على الأصول العربية. وهي جزء مهم من قاعدة بيانات رقمنة اللغة العربية.
والجزء الثاني يقدم الدراسة الدلالية قيمة مضافة على صعيد الدراسات اللغوية، فهي توصل لقوانين دلالية عامة، تحكم تغيرات المعنى، وتضع كثيراً من أسرار العربية وفلسفتها في متناول المتلقي، فتعرّفه إلى آليات صرفية وسياقية تؤلف منهجاً في التحوّل والانتقال لأغراض دلالية “فلابدّ أن تترك موضعاً إلى موضع، إما لفظاً إلى لفظ أو جنساً إلى جنس” قِوام هذا المنهج توظيف القيم الصوتية للحرف، وتثقيل الصيغة بالزيادة. فثمة تناسب طردي بين القيمة والدلالة “فإذا كانت الألفاظ أدلة المعاني ثم زيد فيها شيء أوجبت القسمة له زيادة المعنى به”. والانحراف باللفظ والخروج به عن الأصل فـ “إن انحرف به عن سمته وهديته كان ذلك دليلاً على حادث متجدد، وأكثر ذلك أن يكون ما حدث له زائداً فيه لا منتقصاً منه”. فضلاً عن الاستخدام المجازي للألفاظ الذي يُحدث هزة للدلالة المعرفية، “وأكثر اللغة مجاز لا حقيقة” وتوظيف النبر والتنغيم ليقوم مقام الكلام المحذوف، وإقامة سياق الحال مقام اللفظ؛ مما يفسر كثيراً من الظواهر اللغوية.
كل ذلك يجري بانتحاء سمت كلام العرب وسنن العربية، وتفعيل خصائصها،مما يسهم في تطوير علم اللغة العربية، وتعزيز استراتيجيات وضع المصطلح، وتطوير المحتوى الرقمي العربي، واستحداث مناهج تُعنى بتعليم العربية من مداخل دلالية.
كتاب (خصائص العربية في خصائص ابن جنّي… النظرية الدلالية) – الجزء الثاني، تأليف: د. نينيت خضور. صادرة حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب 2023.
بطاقة
أبو الفتح عثمان بن جني المشهور بـ «ابْنِ جِنِّي» عالم نحوي كبير، ولد بالموصل عام 322 هـ، ونشأ وتعلم النحو فيها على يد أحمد بن محمد الموصلي الأخفش) ويذكر ابن خلكان أن ابن جني قرأ الأدب في صباه على يد أبي علي الفارسي حيث توثقت الصلات بينهما، حتى نبغ ابن جني بسبب صحبته، حتى أن أستاذه أبا علي، كان يسأله في بعض المسائل، ويرجع إلى رأيه فيها. على الرغم أن ابن جني كان يتبع المذهب البصري في اللغة إلا أنه كان كثير النقل عن أناس ليسوا بصريين في النحو واللغة وقد يرى في النحو ما هو بغدادي أو كوفي، فيثبته.
التقى ابن جني بالمتنبي بحلب عند سيف الدولة الحمداني كما التقاه في شيراز، عند عضد الدولة وكان المتنبي يحترمه ويقول فيه: «هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، وكان إذا سئل عن شيء من دقائق النحو والتصريف في شعره يقول: سلوا صاحبنا أبا الفتح». ويعد ابن جني أول من قام بشرح أشعار ديوان المتنبي وقد شرحه شرحين الشرح الكبير والشرح الصغير، ولم يصل إلينا في العصر الحديث سوى الشرح الصغير. كان ابن جني يثني دوما على المتنبي ويعبر عنه بشاعرنا فيقول: «وحدثني المتنبي شاعرنا، وما عرفته إلا صادقاً». وكان كثير الاستشهاد بشعره وإذا سُئل المتنبي عن تفسير بعض أبياته كان يقول: «اسالوا ابن جني فإنه اعلم بشعري مني». بلغ ابن جني في علوم اللغة العربية من الجلالة ما لم يبلغه إلا القليل ويبدو ذلك واضحا في كتبه وأبحاثه التي يظهر عليها الاستقصاء والتعمق في التحليل، واستنباط المبادئ والأصول من الجزئيات. اشتهر ببلاغته وحسن تصريف الكلام والإبانة عن المعاني بوجوه الأداء ووضع أصولاُ في الاشتقاق ومناسبة الألفاظ للمعاني.