نحبسُ بعضاً من أفكارنا.. نُغلق عليها.. في عقولنا..
فتأتي وتذهب.. تمضي وتجيء.. بيننا وبين أنفسنا..
تدوّخنا.. وربما جعلتنا نحن محبوسين فيها.
أحياناً نُطلقها.. كي نتحرّر منها..
وفي ظروف معينة، نُجاهر بها على هيئة كلماتٍ مكتوبة إلى “الآخر” في محادثات على أحد تطبيقات التواصل الحديثة “الافتراضية”، كما الحال السائد في هذا الزمن.
ثم يحدث أن نحذفَ هذه الأفكار.. والكلمات.. عبر حذف كلّ المحادثة.. وكأننا نتخلّص من ذاكرة تلك اللحظة أو الفكرة.
نحكي.. نسرد ما نفكر به.. نُطلق كلماتنا، ثم نحذف.. نلغي.. نشطب..
هل نمارس آلية للتجديد من خلال ذلك..؟
أم نمارس هروباً من ثقل الذاكرة..
أو ربما نتخلّص مما نعتقد أنه سيغدو ذاكرة لمقبل الأيام؟
إذاً يبدو أننا نغتال جزءاً من ذاكرة تراكمية.. تكوّنها الكلمات والمحادثات التي تخبّئ كثيراً من أفكارنا.
ضمن كتابه “الهدوء الذي يسبق: تاريخ نشأة الأفكار الراديكالية” الذي خصّص فيه (غال بيكرمان) فصلاً للحديث عما أطلق عليه “ساميزدات” أي (نشر ذاتي)، وهي طريقة سرية انتشرت في ستينيات القرن العشرين لقراءة الروايات والقصص والقصائد والمقالات السياسية في الاتحاد السوفييتي، يقول “بيكرمان”: (إن الوسيط الذي نستخدمه لإجراء محادثة يشكّل نوع المحادثة التي يمكن أن نُجريها، بل يضع حدود تفكيرنا. بعبارة أخرى، الوسيط هو الحاوية التي تحوي أفكاراً محدّدة دون غيرها).
حالياً التطبيقات الذكية هي الوسيط السائد في مختلف محادثاتنا..
ألا تجعلنا نختزل.. ونكثف أفكارنا بقدر ما نستطيع..
والسؤال الأهم..
أي نوعٍ من المحادثات تلك التي يفترض أن نعوّل عليها في معرفة “الآخر” والحكم عليه من دون أن تشتمل على تواصل بصري حيّ ومباشر؟
يبدو أنه مهما اشتملت حواراتنا ومحادثاتنا “الافتراضية” على أفكار مهمة.. تعبّر عن العميق والحقيقي منّا ومن أنفسنا تبقى مبتورة مجتزأة.. وبالتالي تجعلنا نُفهم أحياناً بطريقة مغلوطة..
أيكون هذا هو سبب حذفنا لها؟
دون أن نلغي احتمال أنه يحدث، أحياناً، العكس..
فنحذف الكلمات لأنها تمسّنا بعمق.. كأنها تنخر في عظامنا كلّما تذكرناها..
فللكلمات أثرٌ ينبت داخلنا.. تصبح لها جذور وأيضاً فروع.
شخصياً.. أحذفُ كي أتخففَ من عبء ذاكرة الأشياء والكلمات..
كأنني أمارس هروباً بطريقة غير مباشرة..
لأنه يحدث أن نهرب من الشيء حين نرغب فيه بشدة.
التالي