كثيراً ما توقفت دراسات الفن التشكيلي- وكذلك العمـارة- عـند خصائص الثقافة البصرية التي أنتجتهما، والـتي تكونت أساساً مـــن تأثيرات البيئة الطبيعية المحيــــطة ومشاهدات الإنسان وحياته فيها، ومن مساهمة الزمان والمكان في صنع أفكار ومعتقدات حددت في كل مرحلة من مراحل التاريخ البشري توجه الفنون البصرية وسماتها الأساسية.
وقد نجحت حضارات إنسانية كثيرة في صنع هويتها البصرية تبعاً لما سبق بحيث صار سهـــلاًعــلى الباحثين، بعــد زمــن طــويل، تميــيز نتاجها الفني، واكتــشــاف التأثيرات المتبادلة بينها وبين الحضارات المتـــجاورة والمتتالية، والتي امتلكــت نوعــاً مــن أنواع الاتصال عن طريق التجارة وانتقال الجماعات البشرية، وبالمقابل حافظت بعض الحضارات على (صفاء) مفاهيمها الفنية بحكم عزلة موقعها الجغرافي، وعدم اتصالها بحضارات غيرها، فكان أن بقيت تلك المفاهيم في منأى عـن أي تأثير حتى عــصور متأخرة فساهم ذلك- وما سبقه- في اكتساب الحضارة البشرية وفرة وتنوعاً في إبداعاتها الفنية، وشارك في ذلك حتى الحضارات التي اندثرت أو أبيدت وأفنيت، وظلت مفاهيمها الفنية متوارثة في نتاج أجيال تالية لم تعاصرها..
تتيح الثورة التقنية الهائلة التي يشهدها زمننا في وسائل الاتصال بدءاً من البث الفضائي التلفزيوني، وصولاً إلى شبكات الانترنت، تتيح إمكانية غير مسبوقة للتبادل الثقافي والتعرف على الإبداعات الفنية لشعوب العالم، غير أن هذا يظل افتراضاً نظرياً في ظل التباين الهائل في الإمكانات المادية بين دول العالم . و خضوع القسم الأعظم من تلك الوسائل إلى سيطرة مراكز القوة الاقتصادية و السياسية في العالم، وتالياً فإن تدفق المعارف الثقافية والإبداعات الفنية يأخذ- إلا فيما ندر- درباً وحيداً يتجه من المجتمعات الأقوى والأغنى والأكثر سيطرة على وسائل الاتصال، إلى المجتمعات الأخرى، وعليه لا تفقد المجتمعات الأضعف قدرتها على المساهمة في استكمال صورة الثقافة العالمية، وإنما قد تغيب كلياً عن الصورة بحيث يبدو النتاج الإبداعي للبشرية، بما في ذلك ما ينتمي إلى عصور سابقة، وكأنه يختص ببعض المجتمعات دون سواها، والأمر هنا لا يقتصر على تزييف نسب هذا التراث كما حصل في غير مكان من عالمنا، وإنما يعني الدلالة الحرفية لكلمة إلغاء وهو فعل يحدث بأشكال مختلفة لم تعد تعتمد على السيطرة السياسية والعسكرية المباشرة، وإنما صار حدوثها ممكناً وشائعاً بحكم التأثير المتنامي، من دون حدود، لوسائل الإعلام في تغيير المفاهيم والثقافات بحيث تتجه مجتمعات كثيرة نحو نموذج ثقافي وحيد متخلية عن خصوصيتها، وعن محاولات تطويرها ..
في حركة لا تبدو انفتاحاً على العصر والثقافات الأخرى بقدر ما تبدو إلغاءً لبعض الملامح الأصيلة التي تكشف تاريخاً طويلاً وثرياً من التطور الإبداعي والحضاري، والتناغم بين الإنسان ومحيطه.