هفاف ميهوب
إن حاولنا اليوم، وفي ظلّ ما نراه من دمارٍ وإباداتٍ يمارسهما العدوّ الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية.. إن حاولنا التفتيش في ذاكرة كلّ مبدعٍ من أبناءِ هذه الأرض، لوجدنا نسغ أشجار الزيتون المتجذّرة فيها، يمتد إلى أناملهم، فتخضرّ في شتى الفنون الإبداعية.
الكاتب والروائي “نصار إبراهيم” من هؤلاء المبدعين، وقد نبشنا في ذاكرته، فوجدنا حكايا زيتونها، تروي حكايا كلّ الفلسطينيين: “ذاكرة الزيتون ممتدّة، تخبّئ عمرها بعيداً في حلقاتٍ سنوية، وكأنها ألواحٌ كنعانية منذ العصر الأول، وحين تجفّ بعض أغصانها تشعر بالضّيق، فتودّ أن تتحرر منها لتطلق وعود التجدّد، وحين يكون ذلك تتمهّل، وتفجّر طاقتها في العام التالي”.
حتماً، كلّ ما قيل عن ذاكرة الزيتون ليس صدفة، ولا ما تحمله أشجارها لأبنائها، مجرّد خيراتٍ يُحكى عنها وتُنسى.. هي ليست ككلّ أشجار فلسطين، ذلك أنها تمنح أسرارها لكلّ ابنٍ من أبنائها، فتحدّثه وتهمس له، بما جعلها وكأنها، تُدرك ما قال عنه “إبراهيم”: “وكأنّها تدرك أنه سيواجه أقداراً وخيارات قاسية وحاسمة، فأعطته ما يريد: عنادها، صبرها، جمالها، قدرتها على الاحتمال والعطاء.. علّمته أن يعتمد على ذاته العميقة، أن يعود دائماً لجذوره ونبع ذاكرته الأوّل، لكي يخلق من فسحةٍ أفقاً”.
إنها ذاكرة الفلسطيني أنى ارتحل، تتّقد فيها مفردات المواجهة والنضال والعزّة.. مفردات حياته وغربته ومعاناته، وشوقه للتماهي مع كلّ ما في أرضه، وبحبٍّ يحتضنها وغضبٍ يجعلها، تطلق صرختها: “لا أرضَ وراءَ بحرِ غزَّة”: “في كلّ مواجهة تتّكئ غزة على ذاتها، وعيها، دمها، دموعها، ألمها وبسالتها وتقاوم.. حربٌ وحشية جديدة، جولة اشتباك جديدة، دمار عظيم، صمودٌ عظيم، آلاف الشهداء يصعدون إلى مجدهم.
في زمنِ المواجهة، تتجاوز غزة الدموع والألم والفجيعة، وتواصل المجالدة والوفاء لفكرةٍ ناظمة: لا تمت إلا وأنت ندُّ! إيّاكم والموت المجانيّ!.
هكذا تردّ غزة، على معادلات الموت غير الطبيعي وغير المنطقي، بفرضِ معادلاتها الصارمة.. غزة ليست ميدان تدريبٍ للرماية، ولا تقبل معادلة الموت المجاني”..
بهذا يصرخ أيضاً “إبراهيم” وبلسانِ كلّ أبناءِ وطنه المقاومين.. يحمّل كلماته لعصفور الشّمس، كي يُلقي تحية العام الجديد على أفقِ وطنه، آملاً بأن يحمل له هذا العام، السلام والحرية والأمان والنصر، على أعدائه ومغتصبي أرضه.
“يا عصفور الشّمس الفلسطينيّ، ليس الحزن من طبعِك، فمهما يكن قاومْ ولا تحزن.. حتى لو وراء القضبان لا تحزن، وفي وحشة الليل حلِّق ولا تحزن، وسواء وراء جدارٍ أو تحت حصارٍ لا تحزن.. حتى لو صمَتَ كلّ العالم جبناً ونفاقاً لا تحزن.. حتى لو بدت لك نجمةُ الصُّبح كأبعدِ ما في السّماء لا تحزن.. فإذا لم يكن لك متّسعٌ حرُّ على الأرضِ هنا، فأطلق ذاتك مع الرِّياحِ وحلِّق نحو الشّمس ما استطعت سبيلا.
اقرأ يا عصفور الشّمس سورة الأرضِ، ثم اعلو ما شئت وقاوم، فهنا فكرة البدايات، وهناك في الأعالي تكون شمسُك فكرة النهايات، فحلِّق واعلُو ترى أوسع وأبعد وأشمل. هكذا تعيدُ للكونِ توازنَه!”..