الثورة – ديب علي حسن:
كان الكثيرون يظنون أن عصر القراءة للإبداع الروائي قد انتهى مع فورة التقنيات وانتشار مواقع التواصل، ولكن الذي حصل أن هذه المواقع قد أدت دور المروج لهذا الإبداع بغض النظر عن مستواه.
فازدادت عملية النشر لكل شيءٍ.. الشعر والرواية، وزادت نسبة الرداءة لسهولة النشر والتأليف وقد أشار إلى هذا نقاد كثيرون في العالم كله.
ونحن لسنا خارج هذا الاستسهال في التأليف ونشر غير الجيد أبداً،
بل أخذ غير الجيد مكانة ما بسبب الترويج الذي وجده.
الدكتور صلاح صالح في كتابه المهم(إطلاق التأويل) يناقش هذه القضية بفصل حمل عنوان: “الرواية اللزجة ومازق الكتابة الجديدة”..
إذ يرى أنه من الطبيعي أن (يزدحم المشهد الثقافي العربي بنصوص طازجة يكاد عبير حبر المطابع أن يفوح من سطورها، ويثير مظهرها الطازج شهية المرء للقراءة لمجرد أنها (طازجة) قبل بقية الاعتبارات، وخرج القسط الأوفر من هذه النصوص تحت مسمى(الرواية)، وكان من الممكن أن تخرج تحت مسمى آخر (أدبي أو غير أدبي) وكان من الممكن أيضاً أن تخرج معراة من انتسابها للنوع الأدبي لو لم يكن الشائع في حياتنا الثقافية الحديثة إخضاع النص للتجنيس المعرفي.
وتشاء المرونة المميزة للنوع السردي عموماً والروائي خصوصاً أن يحشر في خانته ما يتأبى انحشاره في خانة الأنواع الأخرى. ولا تقتصر المسألة على مشروعية انضواء النصوص في خانة هذا النوع أو ذاك، بل تتعدى ذلك لتقبع أساساً في طبيعة النص المسمى أيضاً روائياً حين يستعصي ذلك النص على الفهم أو حتى على القراءة، فكثيراً ما يزعم أصحاب النصوص الرديئة الفاشلة (المستعصية على القراءة) أن نصوصهم تخاطب قراء في المستقبل، وأنهم يكتبون نصوصاً حديثة جداً، بدليل مخالفتها للمنتظر منها ومنافية للقارئ في (أفق التوقع) بحسب التعبير المستعمل في الدراسات النقدية المعاصرة.
من التلقائي ألا تغلق أبواب الإنتاج الثقافي في وجه أحد، ومن علامات العافية الثقافية أن يكثر إنتاج النصوص بمختلف أجناسها وأنواعها، ومن علامات العافية أيضاً أن يتضاءل دور الرقابة بمستوييها الرسمي والاجتماعي، وأن تمنح حرية التعبير وممارسة الإنتاج لكل من شاء ولكل من استطاع إلى ذلك سبيلاً وعملاً بمضمون التعبير المستعار من الليبرالية الاقتصادية (دعه يعمل) وعلى طريقة اللازمة المتكررة في الحكايات الشعبية المنسوجة حول (سعلاي الدين) أو (السيد علاء الدين) الممثلة في أن الطريق تسع الجميع ولا يمكن أن تكون حكراً على أحد دون أحد.
غير أن ركام الإنتاج النصي الذي حشره أصحابه وبعض مروجيه ضمن خانة ما يسمونه (الرواية الجديدة) يستدعي إثارة عدد من الأفكار التي تطمح إلى أن تكون دعوة للتأمل وممارسة التفكير الهادىء والحوار من غير أن تتنفج لتدعي (وضع الأمور في نصابها) أو (وضع النقاط على الحروف)، وما يقع في هذا المضمار من ادعاءات القدرة على اجتراح القول الفصل وما شابه ذلك.
فمن البديهي أن ينشأ فرق رصين بين مفهومي الجدة في الإطارين الثقافي والسلعي والفرق حاسم بين (الرواية الجديدة) و(الرواية الصادرة حديثاً) وهو فرق بدهي من غير شك، ولكن حتى في إطار السلعة الجديدة لا تكون هذه السلعة جديدة ما لم يفترق طرازها الجديد عن القديم بشيء ما حتى لو اقتصر الفرق على تحسين ضئيل في الشكل أو إضاءة ميزة ما، أو جملة من المزايا على المنتج السلعي الجديد في سبيل أن يحوز صفة الجدة. وهذا جميعه يفترق بطبيعة الحال عن مفهوم (الرواية الجديدة) الذي رسخ استعماله على نطاق واسع الان روب غرييه في كتابه الترويجي (نحو رواية جديدة) الذي حدد فيه مفهومه للرواية الجديدة على مستويي التنظير وإنتاج النصوص.
وعلى وجه العموم نستطيع رصد أربعة مظاهر رئيسة لبعض المآزق التي تقع فيها النصوص التي جعلها أصحابها ومروجوها من الصحفيين ومتابعو الشأن التقافي في خانة ما أطلقوا عليه اسم (الرواية الجديدة).
هذا المشهد نفسه كان الدكتور جودت هوشيار الناقد العراقي قد لفت إليه منذ فترة من الزمن وأشار إلى انتشاره في الأدب الروسي أي
السابق