الملحق الثقافي- حبيب الإبراهيم:
أُتيح َلنا نحن ُجيل الستّينيات حفظ الكثير من القصائد والأناشيد والأشعار، والتي كانت ضمن مفردات مادة اللغة العربية في مراحل الدّراسة كلّها، حتّى أنها كانت تسمّى في المرحلة الإبتدائية (المحفوظات)، وهذا دليل على أنّه يتوجب على التّلميذ أو الطالب حفظها واستظهارها فيما بعد في الاختبارات والامتحانات النهائية.
ويعزي الكثيرون أن من أسباب حفظ تلك القصائد، أنها من عيون الشعر العربي سواء شعراء العصر الجاهلي، أو شعراء العصر الأموي والعباسي والأندلس أو العصر الحديث، إضافة إلى عدم وجود أي مصدر آخر بين الأيدي في تلك الفترة، فكان لزاماً علينا أن نحفظ عن ظهر قلب القصائد المقرّرة في المنهاج وهي غنيّة وشاملة وجذلة، مما حفّزنا على قراءة المزيد من الشعر وحفظه في الذاكرة، بالرغم من مرور عقود على ذلك، ما زلنا نردّد بين الفينة والأخرى، وفي أكثر من مناسبة العديد من الأبيات الشعرية، والتي ترصد قضايا وطنية وحياتية ومجتمعية وإنسانيّة عديدة.
من منّا لا يتذكر شعراء المعلّقات وبطولات عنترة وحكمة زهير بن أبي سلمى، والمتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس..وغيرهم من شعراء العصور اللاحقة والحديثة والمعاصرة ، وظهور ما عُرف بالشعر الحديث بكل تفاصيله ومسمّياته سواء شعر التفعيلة او قصيدة النثر أو الومضة أو الهايكو أو …ولعل ّ مصطلح الشعر الحديث اخذ نقاشاً وجدالاً بدأ ولم ينته بعد، حول قصيدة النثر وشرعيتها، وهل تندرج ضمن قائمة الشعر أم النثر؟ ومحتواها وأنها تتسم بالغموض و غير مفهومة ويصعب حفظها مما يجعلها أكثر عرضة للاندثار والضياع والتّلاشي، لأنها-برأي أنصار الشعر التّقليدي – بعيدة عن ذاكرة وعقل القارىء العربي الذي وجد فيها غربة واغتراب عن مسارات الشعر التقليدي ومساربه الجمالية واللفظية والبديعية و؟!
ولم يتوقف السّجال يوماً بين أنصار الشعر الكلاسيكي والشعر الحديث، حيث يتخندق كل طرف حول أفكاره ونظرته لكل نوع يراه هو الأجدر والأبقى والأكثر حضوراً على الساحة الأدبيّة أو عبر وسائل الإعلام المنوّعة.
إنّ أنصار الشعر التقليدي (العمودي) يرونه الأكثر إيقاعاً وحفظاً وتناقلاً بين الأجيال، ويبررون ذلك بقدرة الشعر التقليدي على التأثير والتجييش وإثارة الحماس لما يمتلكه من دقة في التعابير والألفاظ وجمالية في الصور، ويرون أنّ الشعر الحديث غير قادر على الثبات في أذهان وذاكرة المتلقي، وهو يعبّر عن ذاكرة هشّة سرعان ما يطويها النسيان، كما يرون انّ الشعر الحديث يصلح للقراءة فقط ولا يتطلب الحماسة ويصعب حفظه حتى من قبل الشاعر نفسه .
إلّا أنّ أنصار الشعر الحديث لديهم حججهم ومبرراتهم تجاه ما يدافعون عنه، وأن الكثير من قصائد الشعر الحديث محفوظة في العقول، وتتردد على الألسن، لما تحتويه من تعابير وصور شعريّة تتماشى مع تطورات العصر الحديث ويدلّلون على رأيهم هذا باستحضار الكثير من القصائد والمقطوعات لشعراء الحداثة الذين أصبحوا علامات فارقة في حركة الشعر العربي من أمثال السيّاب ورائعته (أنشودة المطر:
عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ،
أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ)
ونازك الملائكة (عاشقة الليل)
وفدوى طوقان (صلاة للعام الجديد:
(في يدينا لك أشواق جديدة
في مآقينا تسابيح، وألحان فريدة
سوف نزجيها قرابين غناء في يديك
يا مطلاً أملاً عذب الورود
يا غنياً بالأماني والوعود
ما الذي تحمله من أجلنا؟
ماذا لديك!
أعطنا حباً، فبالحب كنوز الخير فينا
تتفجّر
وأغانينا ستخضرّ على الحبّ وتزهر
ومحمود درويش
(أيها المارّون
بين الكلمات العابرة
أحملوا أسمائكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم
من وقتنا …
أيها المارون
بين الكلمات العابرة …
آن أن تنصرفوا
وتقيموا
أينما شئتم
ولكن لاتقيموا بيننا …
فأخرجوا
من أرضِنا
من برِنا
من بحرِنا
من قمحِنا
من ملحِنا
من جرحِنا
من كل شيء..
وأخرجوا
من ذكرياتِ الذاكرة.
أيها
العابرون
بين الكلمات العابرة)
وأدونيس ومحمد الماغوط وانسي الحاج وفايز خضور.
هؤلاء الشعراء لاتزال قصائدهم ومقطوعاتهم يتردد صداها على ألسنة الكثيرين من عشاق الشعر ومتذوقيه.
إنّ تنافر وجهات النظر بين منتقدي كل نوع مستمر، وأعتقد انّها لن تتوقف مع ازدياد من يكتب قصيدة النثر وخاصة مع إنتشار وسائل التواصل الاجتماعي، والتي حدّت بشكل كبير من حفظ الشعر التقليدي لدى القرّاء وخاصة الشباب منهم، مادام كل شيءٍ أصبح جاهزاً وبكبسة زر واحدة سواء من خلال الفضاء الأزرق أو النت أو …تستطيع أن تصل إلى مبتغاك دونما جهد أو تعب.
في النهاية يظل ّ الشّعر سواء أكان تقليدياً أو حديثاً من أبرز الفنون والأجناس الأدبية القادر على استقطاب القرّاء وتحريك مشاعرهم بما يقدّمه من شاعرية في الكلمات وجاذبية في الصّور وبلاغة في البيان، وهذا بكل تأكيد من العوامل المهمة لحفظ الشعر وتدوينه في العقل والقلب في آن معاً.
العدد 1180 – 5 -3 -2024