لكل زمن ذاكرته

الملحق الثقافي- رفاه الدروبي:
كم تغنينا بشعر المعلقات وحفظنا أبياتها سواء أكان في الغزل والإنسانية ومحبة الأهل أم في الوقوف على الأطلال والتغنِّي بها. وتدرَّجت بنا السنون فقرأنا كلَّ ألوان الشعر حتى وصلنا إلى أيامنا الراهنة لنسأل: هل يعتبر الشعر ذاكرة على الورق وإذا لم يكن ما السبب يمكن أن يعيش دون أن يحفظ في القلب والعقل كما التقليدي؟
فسحة للتأمل
الأديبة رجاء سعيد رأت أنَّه يجب تحليل الشعر الحديث بصياغته وموسيقاه، وأن نسمِّي المُسمَّيات بأسمائها، ونقول على النثر نثراً والإنشاء والسرد أدباً، أمّا الموشحات الأندلسيه فنوع آخر، وكلّها فنون مختلفة عن الشعر وليست شعراً. إنَّهم يريدون تحرير الشعر عن الشعر لأنَّ له قواعد وكل ما قرأناه ممَّا يُطلق عليه الشعر الحديث يُؤكِّد على أنَّه يُعتبر نهضة، مُماثلة للشعر والقصيدة السرديين المعروفة في ألمانيا، ثم تساءلت باستغراب: لماذا نترك لغتنا؟ لتكون لغة أخرى وليس في جميع اللغات الأوروبية للشعر عروض لكن له قواعد. وعلى الرغم من أنَّ الكتَّاب كلّهم أدباء لكن لم يدركوا أنَّ اللغة العربية لغة اشتقاق تقوم على الوزن، فهل يعقل أن يكون الشعر أبا الفنون دون وزن؟ وتتابع حديثها بأنَّ الشعر الغربي الأوروبي له قواعده الظاهرة في السطر والمقطع والنبرة وبعض الأوقات في الزمن؛ لكنه يختلف عن العروض العربية بأنَّ فنهم العروضي ناقص يرتكز على الفنون الأخرى حيث يعتمدون عليه في الرقص أو الغناء ويُسمّونه «الفيت القدم أو الاستيب» من ترتيب وقع القدم في حالة الرقص كرقص السمبا مثلاً؛ بخلاف الشعر العربي كونه فناً متقناً ومستقلاً عن غيره من الفنون ويمكن لنا أن ننشده؛ فالفرق الهائل أنَّ لغتهم لغة نحت لا علاقة لها بالوزن على الإطلاق؛ ومن يعرف لغته وفصاحتها لا يريد أن يُغيِّرها لا لشيء إلا لتصبح لغة أخرى، وإذا كان صعباً، فالصعب نشيح عنه وليس صعباً! بدليل الزجالين الأمويين. إنَّهم لايعرفون القراءة والكتابة وينظمون الشعر على أوزان العرب وبحورهم، ومنهم من نظم ملاحم شعرية كأبي زيد الهلالي، وسيف بن ذي يزن، وقصة الزير سالم: ملاحم كاملة نُظِّمت على العروض العربية، ولنعلم أنَّ اللغات جميعها مسؤول عنها الفص الأيسر من المخ؛ واللغة العربية فقط مسؤولة من الفص الأيمن تشريحياً ويكفي الإعجاز والبلاغة.
حضر الشعر وغاب الشعراء
وبيَّن الأديب سمير حماد بأنَّ الشعر أصبح مألوفاً أن نسمع من يتندَّر ويقول: أقيم مهرجان الشعر ولم يحضر إلا شعراء المهرجان وقلة قليلة من المهتمين، يعني مهرجان بلا جمهور ويقال: إنَّ أقل الكتب مبيعاً في أكثر معارض الكتاب دواوين الشعر الحديث، ويتندَّرون أنَّ المهتمين وحتى النقاد والمدرِّسون والشعراء أنفسهم لا يحفظون لشعراء التفعيلة أو قصيدة النثر إلا القليل منها؛ بينما يحفظون أشعار المتنبي والمعري وقصائد للشعراء الأقدمين ويتناقلونها في أحاديثهم.
كما قال الأديب حماد: إنَّ البعض صار يُؤكِّد أنَّ عصرنا عصر رواية وليس عصر شعر لقلة الاهتمام به وتوجّه القرَّاء نحو الرواية، حتى الشعراء أنفسهم اتجه بعضهم لكتابتها، مشيراً إلى وجود أسباب كثيرة تحول دون انتشار الشعر الحديث وحفظه وتتمثَّل في عزلة الشعراء، واعتكافهم، وانشغالهم بقضاياهم الذاتية بعيداً عن الهمِّ العام، وما يشغل الناس من مشاكل وهموم يُعبِّر عنه الشعر، ناهيك عن تكلُّف الكثير من شعراء الحداثة في الإبهام والغموض، وعدم الاهتمام بموسيقا الشعر وإيقاعات الحروف والجمل المساعدة على الحفظ، ما دفع الكثير من القراء والمتلقين للابتعاد واللامبالاة عن منابر الشعر وعدم التمعُّن بمَنْ يقوله، ما يعني أنَّ الشعراء المحدثين مهما كان نهجهم الفني وخاصة قصيدة النثر واتجاههم للاهتمام برواية تناقش الشأن العام وتهتم بموضوعات تجذب القارئ أكثر من الشعر.
وحين يصبح الشاعر مكتفياً بالتعبير عن عواطفه الخاصة، منغلقاً داخل ذاته، تائهاً في الفراغ والخواء لن يجد من يهتم به ولا بالمنابر المستقبلة له ولا بدواوينه، مؤكِّداً أنَّه سبب أساسي في تقلُّص الإقبال على الشعر وعدم مبالاة الجمهور بما يكتب ويُلقي. طبعاً هناك استثناءات قليلة من شعراء الحداثة تغلبوا على المحنة كالسياب، والبياتي عاشا مرارة المنفى، ودرويش من عاش قضية فلسطين وأصبح علماً فلسطينياً مشهوراً في العالم أجمع، ونزار قباني عندما غاص في قضية المرأة، وجسَّد رغبتها في التحرر من سلطة الرجل الشرقي وسجنه لها خلف الأبواب المغلقة، والشابي من دعا جيله للتمرد والتحرر؛ لكن الكم القليل من الشعراء من تربَّعوا على عرش القصيدة والذاكرة ليسوا إلا كمَّاً قليلاً من بين آلاف الشعراء مَنْ لا يجدون حظاً أو اهتماماً بشعرهم ولا مَنْ يقتني دواوينهم فتراكم فوقها الغبار دون أن يهتمَّ أو يبالي بها أحد.
جودة النص
بدوره الشاعر والكاتب اِبراهيم عباس ياسين أردف بأنَّه لايظن أنَّ مسألة الحفظ للأشعار بوجه عام تتعلق بقديم الشعر أو حديثه، بقدر ما تتعلق بجودة النص الشعري، ومدى التصاقه بوجدان وذاكرة القارئ، مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّه من الممكن أن تكتب الحياة الخلود للشعر حتى ولو لم يعلق بالذاكرة، لأنَّ الذائقة الشعرية والمقدرة على الحفظ وتخزين المقروء تتفاوت بين قارىء وآخر حتى لو لم يكن شعراً.
ثم أضاف الكاتب ياسين: إنَّ قصائد كثيرة من الشعر الحديث مخزونة في ذاكرة القارئ، ويترنَّم بها الكثيرون دون مشقة أو عسر، لما تمتاز من نقاء المفردة ونصاعة الصورة وبراعة التراكيب والابتعاد عن الغموض، إضافة لما تنطوي عليه من غنائية عذبة؛ في الوقت ذاته ترقد في ذاكرة المتلقي قصائد تقليدية لاحصر لها، موزونة ومقفَّاة لكنها في غياهب النسيان لأنَّها لم تستطع الارتقاء لمرتبة الشعر كفن إبداعي أولاً، فالشكل على أهميته لا يصنع لنا شعراً مضيئاً بالضرورة، وليس بالشكل وحده يحيا الشعر أو الشاعر.
شطر واحد
ثم أوضحت الأديبة مها سليمان أنَّ الشعر الحديث يتكوَّن من سطر واحد فقط أي ليس له عجز، كما أنّه يعتمد على تفعيلة واحدة سهلة الحفط ومنظومة وفق القواعد العروضية للقصيدة العربية، يلتزم بها الشاعر ولا يخرج عنها إلا من حيث الشكل، وأغلب القصائد تغنّى بها المطربون ومنها دُوِّن في الكتب المدرسية، ومن أهمِّ شعراء العصر الحديث الشاعر محمد مهدي الجواهري حيث تغنَّى الجيل الجديد بقصائده الجميلة الملتزمة:
أنا عندي من الأسى جبلٌ
يتمشّى معي ويتنقّل
أنا عندي وإن خبا أملٌ
إنَّما الفكر عارماً بطل
يا نديمي لي قدحٌ
ألمّ به الحزن والفرح
في شباب مضيّع هدر ..
وكأنه تنبَّأ بالقادم واستشرف ما نتعايش معه حالياً،
والشاعر نزار قباني تردَّدت قصائده وانتشرت بين الأجيال كافة:
تلومني الدنيا إن أنا أحببته
أنا ما خلقت الحبّ
ولا مَنْ أخترعه
وكأنّني على خدود الورد قد رسمته ..
وأيضاً الشاعر بدر شاكر السياب ومحمود درويش وتوفيق زياد والقائمة تطول، منوِّهة بأنَّ الشعر الحديث يعيش ويحفظ في العقل والقلب كما الشعر التقليدي والدليل انتشاره الواسع بين طبقات المجتمع وخلق إبداعات ومبدعين جدد. لاننكر أنَّنا مازلنا نحفظ ونُردِّد قصائد علقت في أذهاننا وحفظناها عن ظهر قلب ولايمكن تجاهلها فالشعر سواء أكان قديماً أم حديثاً يبقى حيَّاً دائماً ولكلِّ جيل من الشعراء مبدعوه.
الكلمة الصادقة
من جهتها الشاعرة رنا محمود أفادت بأنَّ الشعر الحديث ليس غنائياً، ولم يُنثر ليحفظ كأناشيد تعتبر فسحة للنفس للتأمل والإبحار في عوالم الحلم والفكر والانعتاق من إرهاق الذاكرة؛ إنَّ الشعر الحديث سواء على مستوى كشف الواقع أم على مستوى استشراف المستقبل
ميزته حوَّلته إلى طاقة جبَّارة فجَّرت كل العصور عبر الكلمة الصادقة السهلة والممتنعة؛ فظاهرته ذات قيمة كبرى نظراً للقضايا المهمة المعالجة بين المراحل المختلفة المار بها في القرن العشرين كما أبرز دوراً مهماً لعبته المدرسة التقليدية في الانتقال بالشعر العربي من طور التخلف إلى طور النهضة.
تتلقى بروح مختلفة
ورأى الكاتب أوس أحمد أسعد أنَّ في السؤال مشكلة تؤكِّد على الرؤية التقليدية للشعر بأنَّه حفظ وتلقين واستنساخ بينما يُعتبر ابتكاراً وخلقاً وفعلاً إبداعياً في كلِّ الأوقات؛ فكثر لدينا النظم وقلَّ الشعر الحقيقي. ولعلَّ أحد أسباب الرؤية الفهم المغلوط لمقولة ذاك الشاعر العربي القديم عندما نصح شاعراً مبتدئاً جاءه مسترشداً بسداد رأيه في كيفية كتابة الشعر فأجابه: احفظ أربعة آلاف بيت شعري وتعالَ لعندي فغاب الشاعر المبتدئ مدة وعاد فرحاً كي يؤكِّد له بأنَّه حفظ الكم المطلوب فهل أستطيع البدء بالكتابة؟ فقال له: الآن اِنسَ ما قرأت وابدأ، فهنا المعنى المباشر يوحي بميزة الحفظ لكن معناها يكون التأكيد على فعل المراكمة وتكثيف القراءة وتنشيط المخيِّلة وتحفيز الموهبة والحساسيَّة الشعرية الكامنة في الداخل، ومن ثم إيجاد الآلية الناظمة الخاصة لإنتاج الفعل الشعري حيث يأخذ التخمُّر الجمالي مداه قبل فعل القطف، فالفهم المدرسي لمقولة الشعر نفسها يجب إبعادها تماماً عن ذاكرة الأجيال، كما أنَّ السؤال يوحي أيضاً بأنَّ فكرة غياب الموسيقا الملخَّصة بالبحور الشعرية المعروفة تُحدِّد طبيعة الشعر من عدمه.
كما تابع الأديب أوس بأنَّ البحور تُسهِّل عملية الحفظ والتثبيت في الذاكرة؛ وهنا توجد مشكلة حقيقية بأنَّ أغلب ماوصلنا من شعر قديم ضمن التصور عينه كان نظماً لذلك كثر الشعر وقل الشعراء تلك الأقفاص الستة عشر أي البحور الشعرية كما وصفها الشاعر نزار قباني حين يحفظ تفعيلاتها أحد ما وينظم على منوالها بلغة خطابية منبرية بحيث يسهل تكرارها وتلقينها للآخرين لايعني أنه غدا شاعراً، لافتاً إلى أنَّ الشعر وكاتبه ليس روبوتاً للشحن والتلقين، فشعر التفعيلة مموسق أيضاً، ولايحفظ كثيراً فكيف بقصيدة النثر بتسمياتها ونماذجها المختلفة كله غير مهم إلا عند المقعرين الماهرين في قتل روح اللغة وخنق طاقاتها الجمالية الهائلة لأنَّ للشعر كيمياء أخرى وصفة ذئبقية يصعب مسكها إلا من قبل الموهوب الحقيقي وصاحب الكيمياء نفسه يجب أن يتمتع بمخيلة واسعة وتراكم ثقافي جمالي مهم وحساسية خاصة في تلقي الأشياء بطزاجتها الأولى عبر فعل دهشة دائمة وكأنَّه كل يوم يرى الأشياء بعين جديدة، فالصفات كلها تضعه ضمن المناخ النفسي اللازم لكتابة الشعر، ومن هنا يصعب إيجاد تعرُّف جامع له كونه أوسع من قمصانه جميعاً، وإذا كان الخطابي المنبري منه برنته الموسيقية ووضوحه يصبح السبب في حفظه فإنّ الشعر الحقيقي تكون عذوبته في غموضه الأولي والتباسه وإيحاءاته ومجازاته العالية القابلة لأكثر من قراءة وتأويل ويحتاج من القارئ ذائقة جمالية متطورة تواكب الفعل الإشاري والرمزي بما يتضمنه النمط عينه من شعر اتُّهم بالغموض، وبالمناسبة فالاتهام قديم، حين قيل أيضاً للشاعر أبي تمام: لماذا لا تكتب ما يفهمه الناس فأجابهم بنفس التساؤل: لماذا لا يفهمون ما أكتب؟ فالمسالة تتطلب فهماً جديداً لآلية كتابة الشعر وإنتاجه وتعاطي المتلقي له من منظور جديد. واللغة العربية من أكثر اللغات حيوية ويجب على الشاعر والمتلقي أن يتقن فن التعاطي معها ليكون شاعراً متطوراً غير نمطي ومتلقياً متطوراً بذائقة واسعة تعرف كيف تتلقى الجديد بروح مختلفة
                         

العدد 1181 – 12 -3 -2024             

آخر الأخبار
السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها مدير "التجارة الداخلية" بالقنيطرة: تعزيز التشاركية مع جميع الفعاليات ٢٧ بحثاً علمياً بانتظار الدعم في صندوق دعم البحث العلمي الجلالي يطلب من وزارة التجارة الداخلية تقديم رؤيتها حول تطوير عمل السورية للتجارة نيكاراغوا تدين العدوان الإسرائيلي على مدينة تدمر السورية جامعة دمشق في النسخة الأولى لتصنيف العلوم المتعدد صباغ يلتقي قاليباف في طهران انخفاض المستوى المعيشي لغالبية الأسر أدى إلى مزيد من الاستقالات التحكيم في فض النزاعات الجمركية وشروط خاصة للنظر في القضايا المعروضة جمعية مكاتب السياحة: القرارات المفاجئة تعوق عمل المؤسسات السياحية الأمم المتحدة تجدد رفضها فرض”إسرائيل” قوانينها وإدارتها على الجولان السوري المحتل انطلقت اليوم في ريف دمشق.. 5 لجان تدرس مراسيم و قوانين التجارة الداخلية وتقدم نتائجها خلال شهر مجلس الشعب يقر ثلاثة مشروعات قوانين تتعلق بالتربية والتعليم والقضاء المقاومة اللبنانية تستهدف تجمعات لقوات العدو في عدة مواقع ومستوطنات “اللغة العربيّة وأثرها في تعزيز الهويّة الوطنيّة الجامعة”.. ندوة في كلية التربية الرابعة بالقنيطرة