خميس بن عبيد القطيطي – كاتب من سلطنة عمان:
في القرن الثَّالث عشر الميلادي وصلت الحالة العربيَّة والإسلاميَّة إلى حالة سيِّئة جدّاً، فلَمْ يبقَ من الخلافة العباسيَّة إلَّا صورتها الاسميَّة فقط، وكانت الممالك العربيَّة والإسلاميَّة تحكُم نَفْسها في حالة ضَعف وانقسام مريرة سجَّلها التَّاريخ، فبلغت الأُمَّة من الضَّعف والهَوان ما بلغت، فزحَف هولاكو سنة 1258م على بغداد عاصمة الخلافة العباسيَّة، فخرجَت إِلَيْه عساكر المستعصم الَّتي لَمْ تثبتْ طويلاً فدخَل هولاكو بغداد وعاثَ بِها فساداً فدُمِّرت حاضرة الخلافة.
واستمرَّ النَّهب والتَّدمير والقتل40 يوماً، لَمْ يبقَ فيها مسجد ولا دار ولا شجَر إلَّا واشتعلت فيها النِّيران كعادة المغول في كُلِّ مدينة يحتلُّونها، وأُلْقِيَت الكتُب والمصاحف في ماء النَّهر الَّذي تغيَّر لَوْنه وأصبح بِلَوْن الحِبر من كثرتها، وعن تفاصيل تلك المذبحة، يقال إنَّ عدد قتلى سكَّان بغداد على يَدِ المغول بلغ أكثر من مليون قتيل حسب بعض الرِّوايات، حتَّى إنَّ مؤرِّخ المغول «رشيد الدِّين الهمذاني» ذكَر أنَّ عدَدَ القتلى بلغ (800) ألفِ قتيل من خيرة الرِّجال والنِّساء والعلماء والأُدباء، فكانت المذابح بالجُملة، واستخدم المغول كُلَّ الطُّرق الوحشيَّة في القتل والتَّعذيب والإهانة لسكَّان بغداد.
أمَّا الخليفة العبَّاسي المستعصم فقَدْ حجَزَه المغول ووضعوه في كيس ورفسوه حتَّى مات، وبذلك قتلوه خنقاً بعد أن داروا به في أرجاء المدينة وجعلوه أُضحوكةً أمام ذلك الجيش البربري الَّذي لَمْ يُبقِ ولَمْ يَذَرْ، وهذا الحال لَمْ يكُنْ في العراق وحْدَه، بل زحَفَ ذلك الجيش الهمجي على الشَّام فحدَثت مواجهة غير متكافئة في حلَب وعاثَ فيها المغول فساداً، وواصل جيش المغول الزَّحف نَحْوَ دمشق وهكذا سقط آخر الحُكم الأيوبي في سورية، وهكذا في جميع حواضر الشَّام الَّتي قاتلَ بعضُها واستسلَم بعضُها قَبل وصول الجيش، وهربَ الكثير إلى مصر، في مشهدٍ مأساويٍّ لَمْ يسبقْ لَهُ مَثيل في التَّاريخ العربي.
لكنَّ هذا الجيش البربري الهمجي ونتيجة ما اقترف من مآسٍ وجرائم وفساد فقَدْ كان يكتب فصل النِّهاية على نَفْسه لِيأتيَ العام 1260م بعد تلك الفاجعة الكبرى فاجتمعت الأُمَّة للتصدِّي لهذا الجيش الغاشم بقيادة السُّلطان قطز في معركة عين جالوت 1260م، وقاد جيش المُقدِّمة الظَّاهر بيبرس، واستخدم الجيش العربي الإسلامي تعبئة عسكريَّة متناهية الدقَّة والتَّنظيم؛ لذلك تَحقَّق انتصار عظيم سجَّله التَّاريخ بأحرُف من نور كإحدى أعظمِ معارك العرب والمُسلِمين والَّتي تُقارن بمعركة حطين الَّتي انتصرَ فيها القائد البطل صلاح الدِّين الأيوبي على الصليبيِّين وفتَح بيت المقدس عام 1187م.. هكذا سجَّل التَّاريخ تلك الحقبة من التَّاريخ العربي.
ما أشْبَه الأمس باليوم فالتَّاريخ يُعِيد نَفْسه من حيث الانقسام والرِّدَّة الَّتي بدأت منذُ أن انفرط عِقْدُ العرب بتوقيع أوَّل اتِّفاقيَّة منفردة مع الصَّهاينة أو ما يُعرَف باتِّفاقيَّة كامب ديفيد 1978م كاتِّفاقيَّة إطار فصِّلت بنودها في اتِّفاقيَّة السَّلام عام 1979م، وذلك برعاية الشَّريك الأوَّل والمُساند الرئيس للعدوِّ الصهيوني؛ الولايات المُتَّحدة.
تلك الاتِّفاقيَّة كانت بداية الانقسام بَيْنَ العرب وأتاحت المجال لاتِّخاذ مواقف منفردة واتِّفاقيَّات ثنائيَّة مع العدوِّ الصهيوني فأحدَثت شرخاً عميقاً في الصَّف العربي كبَّلت مراكز القوَّة العربيَّة، وزعزعت الموقف العربي، وسادَ الانقسام وعدم الثِّقة.
ومنذُ ذلك التَّاريخ والنِّظام الرَّسمي العربي يَسير من سيِّء إلى أسوأ مروراً بالكثير من المآسي العربيَّة والأحداث العاصفة والمؤامرات وصولاً إلى ما يحدُث اليوم من أحداث مأساويَّة في قِطاع غزَّة والَّتي مضَى عَلَيْها أكثر من خمسة شهور ونصف من العدوان الهمجي وما خلَّفه من مشاهد وانتهاكات يندَى لهَا جبينُ الإنسانيَّة في ظلِّ حالة عربيَّة تجاوزت الخذلان والهوان فأعادت إلى الأذهان تاريخ المغول واحتلالهم للأرض العربية.
المؤسف أنَّ بعض العرب مازال حتَّى اليوم يعتقد أنَّ الرِّهان على القوى الدوليَّة، وهي في الحقيقة ليستْ سوى قوى شريكة في العدوان على هذه الأُمَّة هدفها ثروات وخيرات المنطقة، وحماية أمن الكيان الغاصب، ومن خلال هذيْنِ المحورَيْنِ تنسِّق علاقاتها الدوليَّة في المنطقة، وهنا لا يعتقد أولئك العرب المتعاقدون مع الصَّهاينة وحِلف الغرب الشَّيطاني أنَّهم في منأى عن المخاطر المستقبليَّة؛ لأنَّهم مجرَّد أداة وظيفيَّة مؤقَّتة سيتمُّ التخلُّص مِنْها بمجرَّد انتهاء دَوْرها الوظيفي وفي التَّاريخ شواهد كثيرة.
العدوان الصهيوني الهمجي على قِطاع غزَّة كان يُمثِّل فرصة تاريخيَّة سانحة لاعتماد موقف جماعي عربي تاريخي لاستخدام بعض أوراق القوَّة الممكنة في سبيل الانتصار للأشقَّاء في فلسطين، والتَّنسيق مع قوى الشَّرق المناوئة للمحور الغربي لفرضِ معادلة جديدة في العلاقات الدوليَّة مع استثمار أوراق القوَّة العربيَّة لِتضافَ إلى رصيد المقاومة الفلسطينيَّة الَّتي قدَّمت أعظم الدروس في الأحداث الأخيرة، ولَمْ يكُنْ لِقوى العدوان الاستمرار في عدوانها لو جابهت موقفاً عربيّاً جماعيّاً صلباً مسانِداً للأشقَّاء، وهو في حقيقته يُشكِّل مصدَّات مستقبليَّة من أيِّ انتهاكات قَدْ تطول أيَّ بلد عربي فيما لو سقطت المقاومة الفلسطينيَّة، لكنَّ أولئك العرب ـ للأسف ـ عملوا على النَّقيض في تلك الأحداث مع تقديم بعض الخطابات الدعائيَّة لأغراضٍ إعلاميَّة كأنَّهم لا يملكون غير تلك الخِطابات المستهلكة، وتركوا غزَّة تواجِه تلك الهجمة البربريَّة النَّازيَّة وحْدَها مع صمود أسطوري سجَّلته المقاومة والشَّعب العظيم في قِطاع غزَّة، فيما كان بإمكان العرب مشاركة غزَّة ذلك الصُّمود ويُسجَّل لَهُمْ في صفحات التَّاريخ العربي، وأخيراً فإن طوفان الأقصى معركة فاصلة في التَّاريخ الحديث لهَا ما بعدها.
