كانا يبدوان كصديقين حميمين رغم التباين اللافت في مظهرهما وطبيعتهما.. ورغم قصر وقت تعارفهما الذي لم يتعد بضعة أشهر تفصل بين بداية عامهما الدراسي كطلبة في الصف الأول الإعدادي، وذلك اليوم في أواخر تشرين الأول من عام 1967..
كان الأصغر حجماً كثير الصمت والسكون، يلامس حدود الانطواء والعزلة، يحذر التعارف على من لا يتطابق منبته معه، ويمضي معظم وقته مع دفتر ملاحظات صغير يدون فيه الأدعية المستحبة قبل كل عمل يقدم عليه المرء، وقد عزز مظهره حاله هذا، فقد كان ذا وجه نحيل مائل إلى اللون الأصفر، نادراً ما ترتسم عليه بسمة صافية، وفك ضيق تتزاحم فيه أسنانه فوق بعضها البعض، مما يعطيه مظهراً (دراكولياً) مريباً، فيما صديقه دائم الابتسام، وافر الحيوية، يشارك الجميع في كل الأحاديث التي تثير اهتمام من هم في جيلهم، ومن يزيدونهم عمراً.. ويتحمس بشدة لكل جديد يراه هاماً.. غير أن كلاهما، في المقابل، كان يتمتع بتهذيب فائق، ربما هو ما سمح للصداقة أن تقوم بينهما، فكانا يتبادلان في هدوء مكسوٍ بالاحترام أحاديث تدور في غالبها حول السلوك الشخصي الواجب، ويذهبان معاً للصلاة في مسجد المدرسة، أو في مسجد الحي القريب منها..
لسبب، ما كان مفهوماً يوم ذاك، لم يدر بينهما أي حديث حول الشأن العام، كما هو الحال مع الآخرين حين كانت هزيمة حزيران تفتح منذ نحو خمسة أشهر، حوارات و(جدالات) واستفسارات لا تنتهي بين جميع السوريين، مفعمة بالمرارة والإحباط، وكذلك بالتصميم على التحدي، ومواجهة أسباب الهزيمة، وإزالة آثارها.. وكان للاتجاه الثاني أن ينمو بفعل مواجهات عسكرية متفرقة على جبهتي الجولان والسويس، تعيد للجندي السوري والمصري سريعاً صورته الناصعة التي شوهتها (حزيران 67).. إلى أن جاء الحدث المصري الكبير في العشرين من تشرين الأول ليوحد السوريين (أو معظمهم) على المشاعر ذاتها..
كان ذلك صباح يوم جمعة، وشوارع المدينة وأسواقها الشعبية تزدحم بالناس، وصوت إذاعتي “القاهرة” و”صوت العرب” الصادح من الأفران والدكاكين الصغيرة، وباعة (البسطات)، ناقلاً خبر إغراق رجال البحرية المصرية للمدمرة الإسرائيلية (إيلات)، يلاقيه المستمعون السوريون بتبادل التهنئة، والتعليقات الفخورة الفرحة..كانت المدينة تعيش لحظة انتظرتها منذ أشهر، ولم يكن لينتقص منها الانتقام الإسرائيلي الهمجي في ليل اليوم ذاته على بيوت الناس في مدينة (السويس)، وعلى مصفاة النفط فيها..
في صباح اليوم التالي ارتسمت ابتسامة نادرة على وجه الصديق الأصفر -حين كان صديقه يهم بالجلوس في مقعده – مرفقاً إياها بكلمة (تهانينا).. لوهلة اعتقد الصديق أن التهنئة كانت كمعظم الناس بسبب إغراق المدمرة الإسرائيلية، لكن المفاجأة عقدت لسانه حين أردف (الأول) موضحاً:”تهانينا.. ضربوا لك مصفاتك..أليست مصفاة حبيبك.. كأنها مصفاتك”..سأله وهو يكاد لا يصدق نفسه :”وهل أنت سعيد لذلك؟”..أجاب متشفياً وقد اتسعت ابتسامته اللئيمة:” طبعاً (ليش) ضرب “إيلات”؟..”!!
فوجئ طلاب الصف وهم يشهدون بدل الحديث الهادي بين الصديقين المفترضين، شتائم مرتفعة الصوت عن قلة الشرف والخيانة، وسرعان ما عرفوا السبب حين تدخل معلم الصف للاستيضاح، لترتسم على وجهه بدوره تعبيرات متبادلة بين الدهشة والاحتقار، شاركه فيها كثير من الطلاب..
ولم يستغربوا بعد ذلك القطيعة الكاملة التي حلت بين من افترضوهما صديقين حميمين..