عندما تنسجم الإرادة مع الرغبة والخبرة ندرك نمطاً جديداً في الحياة.. الباحثة سحر الراعي لـ «الثورة»: حين نغير طريقة تفكيرنا تتغير ردود أفعالنا لتصبح بالتدريج عاداتنا
الثورة- لجينة سلامة:
إدارة الضغوط النفسية وتعديل السلوك وتنمية المهارات والعمل الساعي للحياة بهدوء واعتماد الحكمة في قراراتنا وأسلوب حياتنا.. مصطلحات كبيرة، وأحياناً قد يكون من الصعوبة بمكان إنجاز البعض منها في ظل الظروف المجحفة بحق الإنسانية.
كيف لنا أن ننجح في تغيير نمط تفكيرنا وفي ردود أفعالنا..!
كيف ذلك ونحن ضحايا الحرب والفقر والحاجة، وضحايا الزواج الفاشل، ضحايا عدم تكافؤ الفرص والظلم الاجتماعي والمهني. كيف لنا أن نعدّل النظرة للحياة.. أو بالأحرى كيف يمكن لنا قبول المستجدات التي قد تطيح أحياناً باستقرارنا وأمننا وطموحاتنا وآمالنا.؟
وكيف لجلسات تدريبية اختصاصية أن تعيد تأهيلنا صحياً ونفسياً لاستعادة التوازن الروحي واستكمال الحياة بشكل طبيعي، وقد ترهقنا مادياً في ظل ظرف معيشي مُتعب.
ماذا عن دور الطبيب النفسي والجمعيات الداعمة لأسلوب الحياة وللحالات النفسية؟
مجموعة من القضايا التي تعنى بالشأن الاجتماعي والإنساني كنّا قد تبادلت الآراء بشأنها وحولها مع الباحثة والدكتورة الاختصاصية في تربية الطفل- جامعة دمشق. الأستاذة سحر الراعي- مدرب دولي معتمد في تدريب الآباء والأمهات والمعلمين وفق أسس التنمية الذاتية وفلسفة المونتيسوري.
ومدرب دولي معتمد في برنامج إدارة الضغوط من الأكاديمية الدولية للتنمية الذاتية.
فكانت هذه المادة التي بين يديّ القارئ الآن.. والتي نأمل أن تكون الأم وكذلك الأب أول من يقرأها قبل الأبناء والإخوة والأزواج..
فالقصة تبدأ دوماً من رحم الأمومة قبل حضنها.. أي من شخصيتها وفكرها ونضوجها ووعيها قبل جمالها ودراستها ومهارتها في الطبخ وغيره، وكذلك القصة تبدأ عند الأب- أي الرجل- ولا تنتهي عنده حكماً، فعليه تقع مسؤوليات نجاح المرأة في المسيرة المشتركة على جسر لا يتحمّل القساوة والضعف إلا بتوازن مدروس وعقلاني.
حاولت جاهدة ألا يكون حواري مع أ.د.الراعي على صيغة سؤال وجواب أو نصائح وتوجيهات، ذلك أنني رأيت في تجربتها الشخصية والعملية والعلمية النجاح الموزون والمحصّلة الهادفة لحياة أقل ما يقال عنها طبيعية.
فكانت الخلاصة بين أيديكم، بهدف تكثيف الأفكار وتبسيطها في آن معاً.
اختبرت كل الأدوار
تقول الأستاذة سحر :»نعم عندما نغيّر طريقة تفكيرنا تتغيّر ردود أفعالنا لتصبح بالتدريج عاداتنا ومن ثم نمطنا، اختبرتُ كل الأدوار ومررت بكل ما ذكرت من محن، واستطعت أن أحوّل المحنة إلى منحة لأني واقعية، وأدركت أن ما أفكر به الآن هو القادم، ساعية للحياة التي لم أكن أعلم عن حقيقتها سوى الظاهر.. نعم نحن ضحايا الجهل.. لم نتعلّم كيف نعيش الحياة.. لم نمتلك ثقافة التأهيل والتدريب.. تبرمجنا على قواعد ومتطلبات لا تخدم الفرد ولا المجتمع بالعمق، ولم تف مناهجنا الدراسية بإعدادنا للحياة العملية، بالرغم من استخدام المناهج المطورة لبعض المصطلحات كـ (التعلم النشط) و(مهارات الحياة )و(التفكير الناقد) و(الذكاءات المتعددة) و(حل المشكلات) و(التفكير الإبداعي) و(التعلم التعاوني).. إلا أنها مجرد معلومات نظرية تحفظ من أجل امتحان سيقرر مصير وحياة الطالب وللأسف تنسف كلها بعد تقديم الامتحان».
وتضيف: «الإعداد للحياة يحتاج خطة مدروسة وواضحة ليست عامة، وإنما تخدم فردية كل فرد منا وفق ميوله وقدراته وأهدافه.. وهذا يتطلب إعداد الشباب وتوعيتهم حول مسؤولية الحياة، التي تشمل المسؤولية نحو الذات أولا ثم الآخر ثم المجتمع فالعالم، إذ كبرنا ولم نطّلع على دليل الحياة، تزوّجنا من دون أن نطّلع على دليل اختيار شريك الحياة، وأنجبنا أطفالاً من دون أن نطّلع على دليل الطفولة، ونصارع مشكلات الحياة بأفخاخ عقلية مدمرة. وبعد كل هذا كيف لا نكون ضحايا الزواج الفاشل والعلاقات المدمرة والفقر المادي والنفسي!».
وبدأت رحلة التغيير
تكمل الباحثة سحر حديثها عن تجربتها الغنية التي أوصلتها إلى ما هي عليه الآن بقولها: «عندما أدركت المعادلة ظهر المعلّم، وبدأت بدراسة الذات والتنمية الذاتية ونويت أن أتابع دوري ورسالتي في الحياة لتكون أعم وأشمل من مجرد إشراف تربوي على خطة أو درس أو دورة وبدأت برحلة التغيير وكان من متطلبات اختصاصي في إدارة الضغوط الحياتية أن أعيد دراسة الصحة النفسية وعلم النفس والإرشاد الأسري، وتعديل السلوك، وتنمية المهارات وصعوبات التعلم، والعديد من التقنيات التي تسهم بتقديم خدمة نوعية لمن يراجعني وأدركت إدراكاً، وليس كلاماً،أهمية الطفولة المبكرة في إعداد أركان الحياة من رجل وامرأة للمستقبل واللذين سيكونان قادرين على مواجهة كل التحديات، وليس الهرب منها بعيداً أو كبتها في الداخل.
وعندها بدأت رحلتي مع مؤتمر منتسوري الدولي بأكاديمية الـMTI الغني بمحاضراته المتنوعة، والتربوية والنفسية والأسرية والعلمية والتقنية وأبحرت بدبلومات المنتسوري.»
علوم الحياة احتياج كل فرد
وتوضّح الباحثة الراعي:»فخلصت من خلال عملي بدراستي أن المنتسوري أسلوب حياة، وليس أدوات فقط، ومظاهر وأبحرت في عالم الطفولة بدراستي النظرية في الماجستير والدكتوراة، والعملية من تحليلي لنتائج تربيتي لأولادي الثلاثة الذين أفتخر بهم وأعتذر لهم بأني أنجبتهم، ولم أكن اطّلعت على دليل الطفولة العملي، أما النظري فكان معلومات تربوية سطحية ألممت بها وعملت ما بوسعي في حدود معرفتي الموروثة آنذاك، وأن تصل متأخراً خير من ألا تصل أبداً.
ومن هنا أطلقت النية والعزيمة بأن أسهم في نشر الوعي الفردي والأسري فالمجتمعي الذي ساهم بالنسبة لي في تغيير العديد من جوانب حياتي لأعيش بطريقة ربما ليست الأفضل، ولكنها الأقرب إلى روحي ونفسي من خلال القبول والانفتاح والتعلم المستمر، والرسالة الواضحة، فعلوم الحياة هي احتياج لكل فرد في مجتمعنا، وهذا الأمر قادني لدراسة اختصاص تعديل سلوك للصغار بمنهج وفلسفة (الدكتورة ماريا منتسوري) وللكبار بمنهج التنمية الذاتية وإدارة الذات الفاعلة لإدارة ضغوطات الحياة بتطبيقات بسيطة وسهلة واستراتيجيات مدروسة، نستطيع من خلالها مواجهة الواقع لا الهروب منه، وإن لم ننتبه إلى هذا الأمر فسيكون هناك ازدياد لحالات الاكتئاب والأمراض النفسية التي ستكون السبب للعديد من الأمراض العضوية.
وهذا لا يعني أن من يريد التغيير سيحصل عليه بكلمة سحرية أو جلسة خارقة أو بكبسة زر، لكني أجزم أن من ينوي التغيير والتطوير والعيش حياة طيبة مثمرة سيتعلم هذا في كورس إدارة الضغوط الحياتية ليتغلب عليها بطرق صحية، والله وهبنا قدرات خلّاقة لنخلق من خلالها واقعنا.»
الافتقار لثقافة الاستشارات التربوية والأسرية
سألنا الباحثة كيف يمكن استثمار الطاقات الذهنية والعقلية لمصلحة حياة بأقل عدد من الخسائر والمشكلات الحياتية والمهنية والنفسية فقالت: «عندما أدركت أهمية أن أتعلّم، اتجهت لإكمال الدراسات العليا ماجستير ودكتوراة لأروي ظمئي نحو التطوير والتغيير، ولكن لم أرتو، لذلك أحاول المساهمة دائماً في نشر بذرة الوعي والعمل الجاد انطلاقاً من ذاتي مروراً بالآخر.
نحن نفتقر في مجتمعنا العربي بالعموم والسوري بالخصوص إلى ثقافة الاستشارات التربوية والنفسية والأسرية ونتخذ قراراً ضمنياً بالمعاناة والكبت والألم والضرر بالنفس وبمن يحيط بنا ويتعامل معنا، نقاوم المشكلات والمشاعر ونهرب منها ولا نواجهها، إما لجهلنا بالأدوات والأساليب التي تساعدنا، وإما لاعتقادنا أن تغيير الواقع أشبه بالمستحيل.»
هل استطاعت الجمعيات ومراكز الدعم النفسي أن تقدم الدعم الذي يساعد الأشخاص المستهدفين نفسياً في تجاوز تلك المشكلات، إضافة للآثار الجانبية للحرب، وهل استطاعت المدارس الحكومية إعطاء الاهتمام لتلك الشريحة التي عانت التهجير والاعتداء والقتل والدمار النفسي إلى جانب إيلاء الاهتمام بالتحصيل الدراسي؟
تجيب أ.سحر عن ذلك بالقول:»أنا من عايش كل ما حدث في الحرب عندما كنت موجهة تربوية في حلب وأشرفت على ١١ مركز إيواء، واستطعت الحصول على موافقة بإعادة التعليم إلى مدينة حلب عندما أمّنت قاعات تعليمية وعملت على إقناع المهجرين والمقيمين في المدارس بإفراغ القاعة من الساعة ٩ حتى الواحدة ظهراً، وعملت على تعليم المواد الأساسية من رياضيات وعربي وانكليزي، وكانت الانطلاقة من مدارس الحمدانية الحي الرابع في مدينة حلب، لكن السؤال هنا هل كان هذا كافياً لبناء جيل أو إكسابه المعرفة والمهارات اللازمة له للحياة العملية.!»
وتابعت حديثها:»عملت كمشرفة منهج صحي في دائرة الصحة المدرسية في مديرية تربية طرطوس، وكنت أقول دوما الجندي يقاتل على الجبهة ونحن دورنا هنا، أي مساندته في بناء الإنسان لنبني الوطن.
أطلقت المشاريع الصحية وحفّزتها بشكل إبداعي من خلال تحفيز المديرين والمعلمين وكانت الغاية إكساب الأطفال مهارات جديدة وعملية تخدمهم مستقبلاً.
جذور المشكلة هو الهدف المنشود
وتركّز الدكتورة الراعي على أن المشكلة العميقة هو في أننا نعمل الواجب والمفروض وكأنه إضافات وإبداع، وبرأيها الشخصي فإن عدداً من النشاطات والبرامج مع التقدير للجهود المبذولة لن تكون كافية لخلق جيل قوي، واثق وقادر على المبادرة والإنتاج.
مع ملاحظة أن وزارة التربية تسعى جاهدة من خلال قراراتها أن تلامس هذا ولكن المشكلة تحتاج حلاً من الجذور علينا العمل لتوفره.
وتقول: «الواقع هو أنا وأنت وهم، فكيف أكون وتكون، ويكون الآخرون، وسيكون الواقع، وهذا يحتاج إلى مناهج أخرى وتكثيف الجهود من قبل جميع القائمين على التنمية الإدارية والمجتمعية لإعادة إعمار البشر قبل الحجر.
والفجوات التعليمية التي حصلت لطلابنا نتيجة الحرب والكورونا والزلزال ليست أمراً سهلاً على جميع الطلاب والأهالي.
يمكن لطفل قدراته جيدة ولديه بيئة خصبة أن يتدارك الأمر ويكثف جهوده ليملأ الفجوة ولكن ماذا بشأن أطفال صعوبات التعلم وذوي الهمم والاحتياجات والأطفال الذين يعانون من حرمان بيئي نتيجة الجهل وأمور أخرى.»
إدارة الأفكار
تنوّه الأستاذة الراعي بأن قوة الإنسان العظمى وبالتأكيد أنها لا تقصد القوة البدنية، هي في قدرته على اختيار أفكاره، لأنها هي التي تصنع حياته وواقعه لاحقاً.
حيث تقول: إن البعض يردّد: «حاولت مراراً التحكم بأفكاري ولم أنجح، أتفهّم ما تقولينه ولكن لا أستطيع القيام به».
وجوابي لأولئك الأعزاء ومع الاحترام لمحاولاتهم أنه عند بناء فكرة جديدة ستجد الكثير من المقاومة من جسدك وعقلك وستشعر بقلة الراحة فتختار الرجوع إلى منطقة الراحة الخاصة بأفكارك.
لذلك إدارة الأفكار تتطلب منك القوة والإرادة للخروج من منطقة الراحة والإصرار بالاستمرارية لتبني الفكرة الجديدة التي تخدم واقعك، ومن المهم تحديد الهدف بوضوح وعدم التشتت للوصول الآمن إلى القرار الصائب.» تعديل السلوك لتغيير طريقة التفكير».
وعن المقصود بتعديل السلوك، استوضحنا من الباحثة سحر فأجابت:
تعديل السلوك يبدأ من خلال تغيير طريقة التفكير وتنمية المهارات المختلفة من عمر الميلاد حتى الشيخوخة، وهو الأساس لتنمية الذات وتطويرها واتزانها.
ونحن نوفّر الوقت والجهد في تعديل سلوكنا عندما ندرك أننا لسنا في المسار الصحيح.
وبعدها نعمل معاً مع الأشخاص الهدف باستخدام التقنيات الصحيحة على تغيير طريقة التفكير، وبالتالي تعديل سلوكهم بالحياة لينعموا بالهدوء والحكمة والراحة وتوسيع زاوية إدراك الأمور المعيشية والعملية والعلمية.»
شرف المحاولة خطوة إنجاز
كانت الباحثة الراعي قد نوّهت إلى مقاومة الجسم عقلاً وبدناً لأي فكرة جديدة فيها الخلاص من واقع متعَب والنجاة من براثن حال قد لا تنفع معه كلمة طيبة ولا دواء.. وللحقيقة أن تلك المقاومة لا تحتاج إلا لإرادة صلبة لرفض الواقع، ومن ثم امتلاك القناعة المطلقة أن أي خطوة إلى الأمام لن تكون بالأمر اليسير وتحتاج الكثير من الطاقة والجهد والثبات على رغبة تغيير وتعديل السلوك والتفكير للوصول إلى نمط يوائم الروح والبدن سوياً بدعم من الاختصاصيين العاملين في هذا المجال، والاستفادة من الاستشارات النفسية والتربوية والعائلية والمعنية بكل حالة على حدة.
إنه شرف المحاولة أن تبدأ بنفض ثقل أفكار تعترض المجرى السليم لحياتك فتنقذ نفسك من الشتات والقلق والمعاناة.. إنه شرف المحاولة أن تبدأ بتغيير ردة فعلك وطريقة تفكيرك عندما تجدها غير صالحة حينها، لتنهي رحلة المعاناة وكذلك الآلام التي تصرّ دوماً على اجترارها.