الثورة – زهور رمضان:
في قرية عين الورد الوادعة، الواقعة في قلب سهل الغاب بريف حماة الغربي، وقفت السيدة ذات السبعين عاماً زيزوف علي على عتبة منزلها الطيني العتيق، وهي تراقب بعيون مثقلة بالحزن وقلب يعتصره الألم ألسنة النيران وهي تزحف ببطء نحو حياتها كلها، نحو أحلامها وذكرياتها وطفولة أبنائها تختصر المشهد تراها ماثلة أمام عينها، تمر سريعاً كلحظة حلم سريع.
لا يمكن تكراره
قالوا لها: “ما بدك تطلعي” فأومأت برأسها بالرفض، وكرر السؤال ثانية، فرفعت رأسها مجدداً ورفضت ثانية، فبيتها هو البيت الذي لا يُغادر.. ورأسها هو الرأس الذي لا يطأطأ ووجهها هو الذي لا يُحني رأسه.
عاشت زيزوف في إحدى قرى سوريا حيث كانت النار تقترب وتلتهم كل شيء وفيما كانت حرائق الغابات وألسنة اللهب يزداد ووهجها ويلفح الجيران والمواطنين، والنيران تزحف كوحشٍ لا يعرف الرحمة، متجاوزاً كل شيء وغير آبه بمشاعر المارين والناس يهربون، يحملون أطفالهم، ذكرياتهم، وما خفّ من متاعهم، لكنها بقيت وصمدت تحت لهيب النيران. إنها امرأةٌ مسنّة، تجاعيد وجهها تشبه تضاريس الأرض التي وُلدت عليها، قالوا لها: “البيت سيحترق!” فقالت: “إن احترق، فأنا فيه… لا أغادر ما يشبهني، ولا أهرب من الذي ربّاني”.
لم يكن بيتها من حجرٍ فقط، بل كان من حكاياتٍ علّقتها على الجدران، ومن خطواتٍ حفرت الأرض، ومن دعاءٍ صعد من شرفةٍ صغيرة إلى السماء.
الكرامة لم تكن شعاراً، كانت في طريقة جلوسها وتأملاتها، في نظرتها وعيونها السارحة، في يدها التي لم ترتجف.. وحين وصلت النار إلى أطراف الحقل، وقف الجيران مذهولين، لأن النار انحرفت، كأنها خجلت من وجهها، كأن الأرض نفسها قالت: “هذا البيت لا يُمسّ.. هذه المرأة لا تُكسر”. هي لا تغادر البيت.. لأنها ليست من ساكنيه.. بل من جُدرانه، من ترابه، من دمه المسكوب في الشقوق.. هي من بخور هذه الأرض من طُهر هذه الأرض جُبِلَت.. من ملح الجراح، من دمعة الصابرين على سفوح التعب..
من عرق الشباب
فمن أراد أن يعرف معاني الصمود ومن أراد أن يفهم علاقتنا بجبالنا.. وعلاقة جبالنا بنا فليصغ لها لصوتها لجبروتها.. وليُصْغِ لَإبائها ورفضها وشموخها.. ليلمح تجاعيد وجهها الذي أرهقته السنون وليلحظ دمعة السنين والقهر، وبؤس الفقر والحرمان في عينيها.. وليسمع نبض قلبها الذي يسكن الصخر والشجر والتراب والماء معاً. نحن منها، وهي منا.. جذورنا متجذرة كجذور الزيتون نموت واقفين شامخين صامدين فيها كالسنديان.. لا نغادرها، ولا تغادرنا.. نحن لا نسكن الأرض، نحن الأرض، والعرض والكرامة.