الثورة – لينا شلهوب:
لا يمكن لأي مجتمع أن يخطو خطوات ثابتة نحو المستقبل من دون تعليم قوي، قادرعلى تلبية حاجات الحاضر ومجاراة تحولات العصر، فالتعليم ليس مجرد خدمة تقدمها الدولة، بل هو العمود الفقري للتنمية، والركيزة التي تقوم عليها عملية إعادة بناء الإنسان والمجتمع معاً.
وفي بلد مرّ بتجربة قاسية كالتي عاشتها سوريا خلال السنوات الماضية، يصبح التعليم أكثر من مجرد ضرورة، بل قضية وطنية كبرى تستدعي تضافر الجهود وإعادة صياغة المنظومة التربوية على أسس متينة تضمن استدامتها.
من هذا المنطلق، شهدت الفترة الأخيرة حراكاً ملحوظاً في أوساط وزارة التربية والتعليم والجهات المعنية، تمثّل في مراجعة شاملة للتشريعات الناظمة لعمل القطاع التربوي، بالتوازي مع وضع خارطة استثمارية لإعادة إعمار المدارس وتوسيع القدرة الاستيعابية للتعليم، هذان المساران- التشريعي والبنيوي- يتكاملان ليشكلا رؤية وطنية طموحة نحو بناء نظام تعليمي أكثر عدلاً ومرونة وكفاءة، يستجيب لتحديات الواقع ويلبي تطلعات الأجيال القادمة.
قوانين أكثر مرونة واستجابة
من أبرز الخطوات التي أطلقتها وزارة التربية والتعليم، تكليف لجنة متخصصة بمراجعة القوانين والتشريعات النافذة ذات الصلة بعمل الوزارة والجهات التابعة لها، إذ إن الهدف ليس مجرد تنقيح نصوص قانونية، بل مواءمة هذه التشريعات مع المتغيرات الدستورية والاجتماعية والتربوية، بما يضمن تطوير المنظومة التعليمية على أسس عصرية.
ورصدت اللجنة العديد من الثغرات والملاحظات التي تتطلب تحديثاً، مؤكدة أن التشريعات الجديدة يجب أن تكون شاملة ومرنة، قادرة على استيعاب التحولات السريعة في ميدان التربية والتعليم، فالتعليم اليوم لم يعد مجرد تلقين للمعارف، بل هو عملية متكاملة تقتضي إشراك التكنولوجيا، وتطوير أساليب التقييم، وإيجاد بيئة تعليمية تشجّع على التفكير النقدي والإبداع.
المعلم في قلب الإصلاح
لم تغفل اللجنة الدور المحوري للمعلم، إذ ناقشت مشروع قانون المراتب الوظيفية للمعلمين، الذي يهدف إلى إرساء نظام واضح للترقي الوظيفي قائم على الأداء والكفاءة، إضافة إلى تحسين الظروف المعيشية والمهنية للكوادر التعليمية، هذا المشروع يحمل بعداً استراتيجياً، إذ يدرك القائمون على الإصلاح أن المعلم هو الركيزة الأساسية لبناء أجيال قادرة على المنافسة والإبداع.
فيما تطرقت أيضاً إلى ملف التعليم الخاص، الذي يشكّل رافداً مكمّلاً للتعليم العام، لكنه يواجه تحديات متعددة في ظل المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وقد طرحت مقترحات لتجاوز العقبات القائمة وتعزيز جودة التعليم في المؤسسات الخاصة، بما يضمن تكامله مع التعليم الرسمي لا منافسته.
ومن القوانين ذات الأولوية التي تأخذ حيزاً مهماً، هو قانون التعليم المهني، الذي يسعى إلى تزويد الطلاب بالمهارات العملية المطلوبة في سوق العمل، بما يسهم في ربط التعليم بالاقتصاد الوطني، كما برز قانون “مركز تطوير المناهج التربوية” كضرورة لضمان تحديث المناهج باستمرار، بحيث تواكب التطور العلمي والتكنولوجي، وتبتعد عن الجمود الذي عانت منه المناهج التقليدية.
رؤية تشاركية وطنية
أجمع المشاركون على أن عملية تحديث التشريعات لا يمكن أن تنجح إذا تمت بمعزل عن المجتمع التربوي والشركاء الآخرين في العملية التعليمية، لذلك طُرحت فكرة تنظيم ورش عمل وطنية بمشاركة المعلمين والإداريين وأولياء الأمور والخبراء، إضافة إلى توفير منصات رقمية تسمح بإبداء الرأي والمساهمة في صياغة التشريعات، هذا التوجّه التشاركي يعكس رغبة في جعل القرارات التربوية أكثر شفافية وارتباطاً بالواقع.
إلى جانب الإصلاح التشريعي، برز محور آخر لا يقل أهمية، يتمثّل في إعادة بناء البنية التحتية التعليمية التي تضررت بفعل الحرب أو الكوارث، فكيف يمكن لتشريعات متطورة أن تجد طريقها إلى التطبيق إذا لم تتوفر بيئة تعليمية مناسبة وآمنة؟
وفي هذا الشأن، ناقشت لجنة الاستثمار في وزارة التربية والتعليم خططاً لإعادة تأهيل المدارس المدمّرة في مختلف المحافظات، مع التشديد على ضرورة الإسراع في التنفيذ وفق معايير جودة وسلامة عالية، والهدف هو استعادة القدرة التشغيلية للمؤسسات التعليمية، وضمان استمرار العملية التربوية من دون انقطاع، خاصةً في المناطق التي شهدت عودة الأهالي بعد سنوات من النزوح.
توسيع القدرة الاستيعابية
لم تقتصر الخطط على إعادة التأهيل، بل شملت أيضاً توسيع القدرة الاستيعابية للمدارس القائمة عبر إضافة غرف صفية جديدة وبناء مرافق خدمية، هذه الخطوة تأتي استجابة للزيادة المتنامية في أعداد الطلاب، ولاسيما في المناطق التي تشهد عودة كثيفة للسكان.
وكان أحد الإنجازات المنتظرة هو إعداد خارطة استثمارية مدرسية شاملة تغطي جميع المحافظات، هذه الخارطة ستحدد الأولويات وتوجّه الموارد المالية والبشرية بكفاءة، مع ضمان التوزيع العادل جغرافياً وعدم إغفال المناطق النائية، وتُعد هذه الخارطة مرجعاً وطنياً لتخطيط مشاريع التعليم على المدى القصير والمتوسط والبعيد.
أكدت اللجنة أن الاستثمار في التعليم لا يعني الاكتفاء بإعادة تشييد المباني، بل يشمل أيضاً إدخال البنية التحتية التكنولوجية، وتحسين بيئة التعلّم بما يحفّز على الإبداع والتفكير النقدي، وهذا يتطلب شراكات واسعة مع القطاع الخاص والمنظمات الدولية والمجتمع المحلي لتأمين الدعم المالي والفني.
ولكي لا تبقى الخطط حبراً على ورق، شددت اللجنة على وضع جدول زمني واضح للتنفيذ، مع آليات متابعة وتقييم دورية لقياس التقدّم وضمان الالتزام بالمعايير، وهنا يظهر البعد الاستراتيجي للرؤية، التي تعتبر التعليم حجر الزاوية في إعادة بناء الإنسان والمجتمع معاً.
التكامل بين الإصلاح التشريعي والبنيوي
إن مراجعة التشريعات وإعادة بناء البنية التحتية مساران متوازيان ومتكاملان، فالتشريعات تضع الإطار القانوني والتنظيمي، فيما تعطي إعادة الإعمار والتوسّع، القدرة العملية على تطبيق هذه القوانين، ومن دون أحدهما، يبقى الآخر ناقصاً، لذلك فإن نجاح الرؤية الوطنية لإصلاح التعليم يتطلب المضي قدماً في كلا الاتجاهين بالتوازي.
ومن خلال هذه الجهود، يتضح أن الرؤية ليست مجرد استجابة لحاجات آنية، بل هي مشروع استراتيجي طويل الأمد، مشروع يضع في أولوياته بناء الإنسان قبل الحجر، وإعادة صياغة دور المدرسة كمحور أساسي في إعادة النسيج الاجتماعي، وتعزيز القيم الوطنية، فالتعليم ليس فقط وسيلة لاكتساب المعارف، بل هو عملية لبناء مواطن قادر على المشاركة الفاعلة في نهضة بلاده.
على أعتاب مرحلة جديدة
أمام هذه التحديات والطموحات، تبدو سوريا اليوم على أعتاب مرحلة جديدة في قطاع التعليم، مرحلة تتطلب الكثير من العمل والموارد، لكنها تحمل في طياتها إمكانية إحداث نقلة نوعية حقيقية، لذا فإن تحديث التشريعات التربوية ورسم خارطة استثمارية لإعمار وتطوير المدارس، ليسا سوى خطوتين أوليتين على طريق طويل، غير أن السير فيه بإرادة جماعية وتخطيط مدروس، كفيل بفتح آفاق واسعة لمستقبل تعليمي أكثر إشراقاً.فالتعليم في جوهره ليس مشروع وزارة أو حكومة فحسب، بل قضية وطنية ومجتمعية بامتياز، وحين يتحوّل إلى محور أساسي لإعادة الإعمار والتنمية، فإنه يمنح الأمل لأجيال كاملة بأن المستقبل، مهما كان صعباً، يمكن بناؤه بالعلم والمعرفة والإصرار.