الثورة – رنا بدري سلوم:
اعترف قلب الشّاعر يحيى محي الدين بأنه سيشهد ضدّه، وها قد فعل.. فكتب ما كتب بماء الورد قصائد من عاطفة نثرها في صفحات ديوانه “مواقيت الورد العالية” إصدار الهيئة العامة السوريّة للكتاب، فندخل مع الشّاعر في حديقة غنّاء يدهشك ما فيها من جماليّات التعبير والصّور الشعريّة كتراتيل روح تتبع الإحساس والحب فتطمئن بلغة واضحة سلسة التراكيب وبتنظيم بنائي ملفت.
معظم قصائده مشرقة وكأن الشّاعر يحمل ريشة ويلوّن فيها فراشات الندى ويخلق على شفاهنا ابتسامات ربيعية تبشّر بالأمل وكأنه يقيس الوقت بيخضور الحبّ الذي لا يذبل، ويذكّرنا أنه فعل الكتابة بذاته “اكتبيني على هاتفِ الغيب ” “فإذا الوجد يكتبني”.
قافية الشاعر منكّهة بالياسمين تترك عطرها على مسامات الذاكرة، وكأنها طقس أراده الشّاعر لقرّاء ديوانه، ليس للحبيبة فقط بل للأمكنة أيضاً التي كان قلبه وفيّاً لها، ففي قصيدة “أناشيد” يسأل دمشق: متى يسافر همسي إليكِ
فيستيقظُ الياسمين بصدري
وتغفو الدّروب؟
أما ابتدأت لغتي
سرّها
فمتى يُكمل الشّعر
ما عزفته القلوبُ؟.
ولحلب النبضة الأولى عند الشاعر وهو ما يؤكد لنا بقصيدته معرّفاً بها:
أما حلب
وردٌ يبوح بسرّه
وغناء لونٍ
في صباحاتِ القصب
والسّيف مأسورٌ لقافيةٍ
لها في الصمتِ
حينٌ
من أحايين الغضب
لا الرّومُ
في جنباتها تغفو
ولا بين المعاني
فاصلاتٌ للهرب
فالعشقُ
أعلى خيله
لحناً تواتر عنده
ليل العرب”.
مساحات من التفكير تتركها بنية النّص بلغة وجدانيّة شفيفة، تبعد عن الغموض والتصنّع والتكلّف في تصوير صورة وومضة شعريّة قريبة للدهشة، هكذا يفهمنا الشاعر محي الدّين الشّعر، نزفه لغته
“وقبلات توارت بخاتمتين، وقتاً من وجعٍ ينأى
وينام على ضفتين،
هكذا أفهم الشّعر
يحتفي مثل طفلٍ
بغايته ويكتبني دمعتين
هكذا أفهم الشعر
ورداً يداهمني
وفراشاً يحطُّ
على جمرتينْ”.
ولا يمكن أن نذكر الشّاعر يحيى محي الدين إلا وترد جائزة وزارة الثقافة التي حصل عليها عام ٢٠١٧ في ذاكرتنا على نص بعنوان “الظبي يعدو في دمي” والتي ضمها إلى ديوانه:
“لا تعبري كغزالةٍ
والظبي يعدو في دمي
عدو المهارى
في صباحاتِ الحبور
وتماثلي للعشقِ
ظلاً أو سنا
أفكلّما ابتكر الفؤاد
وسيلةً
لملمتِ حُسنكِ
في حماقاتِ العطورِ
وتركتِني لغضاضتي أرنو
لذيّاك الذي
أقصى شعوري خلسةً
في اللاشعور”.
قد عتّق الوقت مشاعر الحب في قلب الشّاعر، فمرّت الفصول متعاقبة على جرحه، وكبرت عنده القصيدة ونضجت متآخية مع الوقت كي تكون، فحجزت في الشّعر شطر واستولت على ضميره المستتر.
فكتب” تريّث وأنت
تفكّ رموز المدى
كل ما فيك من أمنياتٍ
سدى والتباس
فإنّ لروحك روحاً
وجرحي بنصّ الهوى جملةٌ
وانتهى ها هنا الاقتباس”.
ديوان مليء بالصور البيانية والبلاغية، والمحسنات البديعية، ونذكر نص جدول النّعناع:
“مدّي عمر النّعناعِ
تتشكّل أسماءَ
وأغانٍ من أوجاعي
ما عدتُ أفرّقُ
من حزنٍ
وخيول الشّوق
تغير على الأوضاعِ
ما عدتُ أوشوش أحجارَ الأمويّ وقد ذرفتْ
ترنيمةَ صمتٍ من إيقاعي”.
ننهي قراءة الدّيوان كما بدأناه من مقدمة الشاعر ” إلى من اصطفاها الياسمين..
فما عدتُ أفرّق بينهما”.
اصطفى الشّاعر عالم الحب والورد والحياة فلم نعد نفرّق هل هو شعرٌ أم تراتيلٌ صدحت من حناجر الياسمين.