الملحق الثقافي- سلمى جميل حداد:
لا تكفي جرار العالم كله لاحتواء دمعة لم تنهمر من عينيها في تلك اللحظة. للحزن هوية واحدة لا تختلف فيها الثقافات مهما تباعدت وتنوعت جذورها ومشاربها. هوية لا عرق لها ولا لون ولا دين. إنها هوية الانكسار، هوية النفي في داخلكَ الجريح، في داخلكَ البارد الخائف المُجوّف الوحيد. الإنسان الحزين ليس حراً، لا يمكن أن يكون حراً حتى لو أراد أو خُيّل إليه ذلك. هو في كل لغات العالم كالشجرة حبيس التراب، كالزنزانة حبيس الوحدة، كالموت حبيس المجهول. وأي محاولة لترجمة الحزن من لغة إلى أخرى هي خيانة المترجم لقدسيته لأن الحزن لا يُترجم.. هو هو في كل لغات الأرض وفي كل الثقافات البائدة والمعاصرة.
جوريا سعد.. جورية دمشق الوردية وأبجدية الحب والدمعة الحبيسة في قارورة عطر. هكذا تفردت فبقيت وحيدة كالشمس. صوت أمها العالي يشوش فضاءاتها، وكذبة أبيها تحطم أيقونتها، وجدّها مزرعة الجوري والحب.
يُقال إن الأسماء لا تُترجم، لكن بيير ترجمها فاتسعت بروزا داماسكينا ضحكة المتوسط. صنعت لأستاذها الفرنسي عطراً يجمع الأضداد في قارورة: كونترا أنسامبل ضاجّ كالألم، صارخ كالغضب، وديع كالحب، حزين كالعنفوان، مطمئن كالجذور، دافئ كالوعد، متلهف مثلها وبارد مثله. في غيابه الأبدي، ضمّت وجعها إلى صدرها كما يضمّ العازف عُوده الحزين وانصرفت إلى ماضيها الميت الحي وحاضرها الباذخ بما أتقنت على يديه. هي اليوم من أشهر صانعي العطور في العالم، وربما أكثرهم عرضة لخناجر الغدر. لكنها لا تزال مأهولة بكونترا أنسامبل، أول وآخر قارورة عشق.
خبر عاجل وعناية فائقة وقلب يتوقف بعد طول صفير. وثّابة للغياب أكثر من أي يوم مضى. أنهكها فراغ الحضور وأثقلها حضور الغياب. الأماكن ضيقة ربما لم تُصنع لمقاسها، والأثير خانق ربما لا يتسع لرائحة عطر صنعته من بعض حضور وبعض غياب. لقد اختارت من المسافات أطولها ومن الغياب أبعده ومن الحب أصعبه. ربما.. ربما حان الوقت لأن يُؤنَّث في غيابها الغياب.
العدد 1195 –2 -7-2024