يمن سليمان عباس:
عندما كنا صغاراً وتقودنا رحلة الصيف من دمشق إلى القرية وقبيل أن نصل جسر معلولا كنا نشاهد بيتاً كبيراً مترامي الأطراف يبدو أن سكانه قد هجروه كما كنا نعتقد..
وظل الأمر لفترة طويلة من الزمن لنكتشف أنه محطة متكاملة للمسافرين أيام زمان.. ويسمى (الخان).
هذه الخانات الجميلة التي كانت نبض الحياة وملاذ المسافر ليست محطات فقط بل هي أماكن تفاعل حضاري واجتماعي.
الدكتور لطفي لطفي في كتابه الجميل الذي حمل عنوان خانات بلاد الشام يبحث في تاريخها وطرازها المعماري.. يقول لطفي لطفي:
(الفن العمراني لبلاد الشام..
لم تكن أرض الشام صفحة بيضاء بل هو تراث طويل ملأه سكان الشام المحليون والطارئون عليه قبل الميلاد بآلاف السنين فالثقافة لا تموت فجأة ولا تظهر فجأة، والفن العمراني هو في الجماهير التي صنعت لنفسها ولغيرها مئات الأشياء التي تدل في تعبيرها عن روح الشعب ووجدانه وفي أدائها المهمة الجمالية التي صنعت من أجلها تلك الأشياء وهو في ناقشي الحجارة ومعماريها وفي صانعي الفخاريات والأشياء الصغيرة وفي نساجي الأقمشة وفي معظم الناس الذين كانوا يتابعون حياتهم وألفوا رسماً وغناء وعمارة وصناعة فنية حتى أصبحت هذه الفنون جزءاً من الشعب ومن دمه وروحه وصارت بعضاً من أدوات الناس للتعبير.
خانات بلاد الشام
يهدف هذا البحث إلى دراسة فئة من المباني عرفت باسم الخانات وظيفتها تأمين المأوى المؤقت للناس وللبضائع وكذلك للدواب سواء على الطرق التجارية أو ضمن المدن وخانات المدن هذه نوعان، نوع بني في ضواحي المدينة وآخر ضمن المدينة. تميز هذا النوع من المباني بخاصيتين:
أ- الانتشار الواسع لهذه المباني.
ب- نموها بتوسع التجارة وازدهارها.
بناء الخانات تحقق بعيد استقرار الإنسان ونمو مجتمعه الاقتصادي وحاجته لتبادل منتجاته مع المنتجات الأخرى الموجودة في مناطق مجاورة أو بعيدة وعلى قدرته على التنقل بوسائل تحتاج مثله إلى راحة بعد يوم كامل من السفر. لكن المؤرخين لا يغوصون في أبحاثهم إلى هذا المدى فمنهم من يعيد بناء الخانات إلى قورش الإخميني٥٦٠_٥٢٩ ق. م ومنهم من يعيد بناءها إلى الرومان. وقد انتشر تعبير خان عن هذه المنشأت في القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي.
يقول البلاذري المتوفى سنة ٢٧٦ هجري في وصف أحد الثغور الشامية القريبة من انطاكية (وكانت منازلها كالخانات) وشاعت كلمة خان منذ القرن السادس الهجري ونزلنا بربطها في أحد خاناته. غير أن ابن جبير أطلق على هذه المنشآت اسم القيسارية ولا سيما قيسارياتها وهن مرتفعة كأنها الفنادق مثقفة كلها أبواب من حديد كأنها القصور. وذكر القلانسي مواقع قرب دمشق سماها منازل العسكر ويلاحظ في القواميس والحوليات أن الخان كان يطلق عليه في سورية اسم فندق وأن كلمة خان ظلت مخصصة لخانات الطرق في سورية ومصر حتى العصر الأيوبي. على أن هذه التسمية لهذه المنشأت كان لها وظيفة رئيسية واحدة هي استقبال المسافرين وتأمين راحتهم وبضاعتهم إلا أن هناك دوراً آخر لهذه المنشأت وهي استعمالها كثكنة عسكرية كان يطلق عليها اسم (رباط) للدلالة على أماكن انطلاق الحملات ثم على الحملة نفسها وبعد استقرار الفتوحات دل على الحصون والقلاع والمحارس المقامة على الحدود الإسلامية).
الكتاب رحلة ماتعة في تاريخ ثقافي واجتماعي ما زالت آثاره باقية قرب الطرق الرئيسة وهي دليل على عمق التقدم المدني الذي كان وما زال.