هفاف ميهوب
يقول الشّاعر «نزار قباني» عن الكتابةِ الحقيقية:
«الكتابة الحقيقية، نقيض النسخ، ونقيض النقل، ونقيض المحاكاة الزنكوغرافية أو الطباعية، فالقصيدة الجيدة هي النسخة الأولى التي ليس لها نسخة ثانية، سابقة أو لاحقة لها، يعني أنها زمانٌ وحيد هاربٌ من كلّ الأزمنة، ووقتٌ خصوصي منفصلٌ تماماً عن الوقت العام..»..
إنه ما قرأناه في أوّل مقالٍ من كتابه «الكتابة عملٌ انقلابي».. المقال الذي أشار فيه، إلى عدم تمكّنه من تقبّل وفهم، أيّ شاعرٍ يتحدّث عن القيم ولا يطبّقها، ويتغنّى بالجمال ونفسه مسكونةٌ بالبشاعة، ويكتب عن الطهارة ولسانه غارقٌ بالوحل.
يشير إلى ذلك، وإلى أنها حالةٌ تدلّ على انفصامِ الشاعر عن قصيدته، مثلما على اختلال سلوكه الذي يُظهره على الورق، ويختلف عن السلوك الحقيقي لشخصيّته.
إنه ما رفضهُ ويرفضه، كلّ من يشعر بأن من المعيبِ واللا أخلاق، أن يكون للكلمةِ وجهان، وأن يعجز كلّ من يدّعي البراعة في امتلاك لغتها، عن إقامة توازن ما بينها وبين العالم الذي ينجذب إلى الشاعر، بعد تأثّره بصورها ومضمونها وقيمها.
إنه أيضاً، ما جعله يرى بأن الشرط الأساسي في كلّ كتابة.. الشرط الذي لايمكن التساهل فيه، أو حتى المساومة عليه:
«الشرطُ الأساسي في كلّ كتابة، هو الشرط الانقلابي، وبغير هذا الشرط، تغدو الكتابة تأليفاً لما سبق تأليفه، وشرحاً لما سبق شرحه، ومعرفة بما سبقت معرفته».
هذا ما رآه «قباني» من أخلاقِ اللغة والكتابة الحقيقية، وهذا ما استحقّ لأجله ألا يكون فقط، صورة القصيدة الحبيبة التي سربلها بياسمين معشوقته دمشق، وإنما أيضاً، صوت الوطن الناطق بالكلمة المؤثّرة والجريئة والاستثنائية.
هو حتماً موقف شاعرٍ، كان كلّ ما يعنيه ويعني قصيدته، الدفاع عن وطنه وأمّته.. أيضاً، رفضه لكلّ أشكال التطبيع مع العدوّ الصهيوني، والفخر بانتمائه للشّعر والجمال، وكلّ أنواع الورد السوري..
نعم، هذا ما كان عليه موقف «قباني». الشاعر الذي رأى بأن عليه أن يكون «برقاً يعرف متى يظهر، ومتى يختفي..»، وصوتاً يردّ على كلّ من يسعى لمحوِ وطمسِ لغته، أو لاستلابِ وتشويه، صورة ثقافته وتاريخه وحضارته:
«اللغة العربية تضايقهم، لأنهم لا يستطيعون قراءتها، والعبارة العربية تُزعجهم لأنهم لا يستطيعون تركيبها..
يريدون أن يفتحوا العالم، وهم عاجزون عن فتح كتاب، ويريدون أن يخوضوا البحرَ، وهم يتزحلقون بقطرةِ ماءٍ، يبشّرون بثورةٍ ثقافيةٍ تحرق الأخضر واليابس، وثقافتهم لا تتجاوزُ باب المقهى الذي يجلسون فيه، وعناوين الكتب المترجمة التي سمعوا عنها».